للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بتصحيح أخطائه، ومثل هذا التصور القاصر عن حقيقة الربوبية كوّن مدخلًا مناسبًا للماديين فيما بعد للاستغناء عنه والاكتفاء بالطبيعة ذاتها.

ومما ساعد في نجاح الماديين في الانحراف بهذا الكشف العلمي أن أغلب جهود اللاهوتيين والمثاليين الدينيين في باب الدين كانت منصبة على توحيد الربوبية القائم عندهم على أهمية إثبات وجود الرب بالأدلة العقلية أولًا، وإثبات خلقه للعالم ثانيًا وتدبيره للكون، وكانت أهم أدلتهم في ذلك معرضة للطعن والدحض، وتعززت المطاعن بالرؤية المادية للعلم مدعين بأن العلم ينقض تلك الأدلة على وجوده أو تدبيره للكون؛ فأما الكون فهو يتحرك لوحده بحسب زعم الماديين وفق قوانين عرفناها وفي ظل حتمية آلية صارمة لا يمكن أن تتغير، وإذا كان الأمر كذلك فلِمَ الإصرار على إدخال قوى غيبية في حركة الكون، وإذا تمّ تبرير عدم الحاجة إلى تدخل تلك القوى الغيبية؛ فما الحاجة إلى إثبات وجود عالم غيبي أصلًا؟!

ويصطدم مع التصور السابق أحد أهم الأسئلة المزعجة للماديين والمعكر لصفو دعوتهم، وهو تساؤل يطفو هنا وهناك: إذا كانت آلة الكون تسير وفق قوانين حتمية صارمة مما يعني الاستغناء عن وجود قوى غيبية، ولكن كيف وجد العالم أصلًا؟ وكيف ظهرت فيه هذه الآلية التي تضبط مساره دون الحاجة لرعاية غيبية؟ فالعلم لا يستطيع -كالعقل- أن يثبت أن الكون المادي أزلي أبدي، أو أنه الموجد لذاته والمتصرف في حركته والمستغني عن غيره، وهنا يظهر أحد أخطاء الثورة العلمية الحديثة عندما رسمت صورة للكون يسير وفق قوانين مستغنيًا عن موجده وخالقه، فأغلب علمائهم يرون بأن الله سبحانه في زمنٍ ما خلق هذا العالم، وأوجد فيه قوانينه، ولكنه تركه بعد ذلك يسير وفق هذه القوانين التي أوجدها في العالم، وبحسب رأي نيوتن فإن الرب يتدخل أحيانًا لتصحيح بعض الشذوذات الكونية، وكأنهم مطلعون على الرب سبحانه ويحددون ماذا عليه أن يفعل -تعالى الله عن ذلك-. وقد بقيت هذه الصورة هي السائدة عن علماء ومفكري القرن الحادي عشر/ السابع عشر والثاني عشر/ الثامن عشر، وهي ما يطلق عليه الماديون بـ "التأليه السببي" "الإله مجرد علّة أولى للعالم، خلق الكون، لكنه لا يتدخل في مجريات الحوادث فيه" (١)، وسمحت فكرة "التأليه السببي"


(١) موجز تاريخ الفلسفة ص ١٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>