والعجم، وإذا كان حال الأمم القوية من الجهل والظلم؛ فما بالك بالأمم الضعيفة ومنها حال العرب، وحال الجزيرة ذاتها حيث نجد دركات من الجهل والظلم.
وإذا كان الأمل في إنقاذ البشرية مستبعدًا من الدول العظمى آنذاك، فهو أكثر استبعادًا من الأمم الضعيفة لاسيّما أهل مكة والمدينة، التي لم تكن طموحات أهلها آنذاك تتجاوز السماح لهم من قبل الإمبراطوريتين فارس والروم بممارسة البيع والشراء وتركهم في حالهم يعمهون.
ولكن ربك عليم حكيم، يعلم سبحانه أين يضع رسالته ومن يصطفي من عباده للقيام بمهمة إعادة الناس للتوحيد، وتصحيح مسار التاريخ، وإعادة الأمل إلى الأمم، ورفع الجهل والظلم عنها، وجاءت دعوة الإنقاذ من أضعف الأماكن وأبعدها عن التصور، وكما قال -تعالى-: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}[القصص: ٦٨](١)، فاختار الله سبحانه رجلًا لم يكن من المتطلعين لتلك المهمة، ولكنه هو في علم الله سبحانه صاحبها، قال -تعالى-: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (٨٦)} [القصص: ٨٦].
وفي ربع قرن نجحت دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقامت دولة الإِسلام، وبدأت تمدّ ظلّها الوارف على كل من يدخل في الإِسلام، وجاءت مهمة مواجهة الراعين للضلال في العالم "فارس والروم"، فنجح المسلمون في وقت قصير من إقصائهما عن سيادة العالم، وانكمشت الروم إلى أوروبا وعادت الوثنية للخلف لتبقى في أقصى الشرق.
وتولّت الأمة الإِسلامية منذ ذلك الوقت قيادة العالم وإدارة مسؤولية تقدمه، ويتفق عقلاء العالم بأن الأرض قد تغير حالها وحسُنَ أمرها بعد بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام وظهور الإِسلام وانتشاره في العالم، وأنهم أيضًا ولأكثر من عشرة قرون كانوا القوة الأشهر على مستوى العالم والأنفع له. ولا يعني ذلك سلامة كل أجزاء العالم الإِسلامي من الضعف أو الانحراف، ولا سلامة كل الفترات التاريخية منهما؛ فإن أسباب ضعف الأمة وقوتها يتجاوران ويتصارعان، وبحسب حال الأمة يميل الميزان لصالح أحدهما.
(١) انظر: كلامًا جميلًا لابن القيم حول بعض المعاني لهذه الآية، زاد المعاد ١/ ٤٢ وما بعدها.