للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب -على ما بعد لكن- بأنه لا أعظم من ترقية العقول في دائرة التعليم الديني بما يمنحها من هداية ورشد ومنهج سليم؛ ولذا لم ينشغلوا بما انشغل به غيرهم من علوم فلسفية وكلامية أرهقت المتعلمين في بلاد المسلمين دون ثمرة في الدنيا أو الدين، أما مشاكل المدنية الحاضرة ومطالبها فقد عرفنا بأن واقعهم آنذاك، الزماني والمكاني، والظروف المحيطة بهم قد أجّلت احتكاكهم بمشاكل المدنية الحاضرة، ولكنهم عندما احتكوا بها كانوا من فرسان الميدان، فأصّلوا ونظروا وبينوا الواجب والممنوع، وأجابوا عن الإشكاليات، ودعوا إلى تأصيل إسلامي حضاري للمدنية الحديثة، ولا شك أن الواجب الكفائي على الأمة المسلمة يختلف من مكان إلى آخر، وأمور المدنية الحاضرة إن كان المقصود بها الترقي بأحوال الناس المادية في الطب والصناعة والإدارة والعلوم الدنيوية النافعة، فلا أحد يختلف في أهمية توفيرها وتمكين الناس منها, ولكن هل ترك أعداء الدعوة لها المجال في فعل ذلك، فقد جيّشوا الجيوش وأثاروا عليها الفتن وألّبوا عليها الناس؛ مما عطل البناء وأشغل الدعوة في الدفاع عن نفسها من الحروب المتتابعة عليها.

ومما سجله لنا التاريخ تلك الصفحة السوداء لرسل الحضارة الغربية والمدنية الحديثة -محمَّد علي وأبناؤه- حيث مارسوا القتل والإفساد في الأرض بالتواطؤ مع الإِنجليز آنذاك في الباطن وإظهار الدفاع عن الدولة العثمانية، فضربوا الدعوة السلفية وشردوا العلماء أو قتلوهم (١).

المخرج الثاني: هو طلب إصلاح الدنيا، وكان من بين أهم ما يعنيه ذلك عند أهل تلك المرحلة: الإقبال على أوروبا التي عرفت تقدمًا كبيرًا في دنياها. ولا شك أن إصلاح دنيا الناس أمر مطلوب شرعًا، ولكن قد حدثت أخطاء في أثناء تلك المحاولات تسببت في فشل مثل تلك التجارب أو انحرافها.


(١) انظر حول ذلك الدراسة المميزة: سياسة محمَّد علي باشا التوسعية في الجزيرة العربية والسودان واليونان وسوريا. قراءة جديدة (١٨١١ - ١٨٤٠ م)، الفصل الأول: ص ٣٣ - ٦٠، وفيه ص ٥٢، سرور فرنسا والإِنجليز بذلك، وإبلاغ فرنسا "الباشا" عبر قنصلها أنها ممنونة مما رأته من اقتداره على نشر أعلام التمدن في البلاد الإِسلامية! وانظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، د. علي الصلابي ص ٣٩٨ - ٣٩٩، وانظر: الانحرافات العقدية والعلمية. . . .، علي الزهراني ص ١٧١ - ١٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>