أسباب أخرى في توفير قاعدة أساسية لتدخل أوروبا وإرغام الدولة على اعتماد خطة تحت إشراف أوروبي، فإذا كانت هذه حال الدولة الأم في العالم الإِسلامي فكيف هي الحال بغيرها؟!
خُتمت مرحلة السلاطين الشباب ببروز تيار التغريب، وقد كان سنده الخلفي الداخلي من اليهود داخل السلطنة وعلى مقربة من العاصمة، وكان أهم ممثل لتيار التغريب هو "تركيا الفتاة"، وأهم سند خلفي يهودي منظم آنذاك هم "الماسون"، وقد نجح هؤلاء -في ظروف غامضة- في إقصاء السلطان عبد العزيز ثم قتله، والمجيء بمراد الخامس ابن عبد المجيد الأكبر وهو ممن انخرط في الماسونية، وكان بسببهم قد تشبع بالأفكار العلمانية والفلسفة الغربية، ولكن حكمه لم يطل؛ فبعد ثلاثة أشهر أصيب بمرض عقلي فأقيل (١)، لندخل في عهد ولاية عبد الحميد الطويلة والخطيرة في الوقت نفسه.
وعند الرجوع إلى هذه المرحلة التي تسمى أحيانًا فترة الإصلاح وعهد التنظيمات؛ نجد نتيجة محزنة للغاية، كان أخطرها: تدخل الغرب، وقوة الأقليات وسعيها للانتقام، وتمكن تياراتها من التغلغل والتأثير، وبروز تيار التغريب بقوة، وقد وقع العلم والتعليم فريسة لهذه المستجدات، فضُرب التعليم الديني، وانهمكت الدولة في طلب العلوم العصرية، مع أن أغلب ذلك كان مزاعم لا حقيقة لها؛ حيث لم يظهر هناك ما يثبت حصول الدولة على معارف نافعة تَبِعها تقدم دنيوي كما حصل في تجربة موازية لتجربتنا وهي تجربة اليابان مثلًا أو تجربة الروس، وإنما الذي حدث هو تقليد أعمى في المظاهر والفنون والآداب والأفكار، وعن هذه الإصلاحات يتحدث رجل قريب من تلك المرحلة وخبير بها -الشيخ محمَّد رشيد رضا- فيقول: "وأما رجال السياسة والإدارة فكانوا مفتونين بتقليد الإفرنج في معيشتهم وحريتهم وظواهر نظمهم، وإنما كانوا يقلدونهم فيما يسهل فيه التقليد كتقليد الطفل لمن يعظم في عينه من الرجال، وتقليد الأصاغر لمن فوقهم من الأكابر، كالأزياء والعادات وشكل المدارس والدواوين، وقد ترجموا أكثر القوانين فلم يقيموا منها شيئًا، وأما العلوم والفنون
(١) حول (مراد) انظر: الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص ٤٣٩ - ٤٤٠، وانظر كلام السلطان عبد الحميد عن أخيه مراد في مذكراته: ص ٦٢.