يصح قول من يتهم المؤسسات الإسلامية برفضها لمثل هذه العلوم ومنع تعلمها أو تحريم تعلمها؟! ولكن إذا كان ذلك من فروض الكفايات فلماذا لم تظهر في الأزهر؟! هنا ننتقل إلى الأمر الآخر الذي لفت شيخ الأزهر الوالي إليه.
ب- أنه بيّن سبب غيابها عن الأزهر، وذلك يعود إلى الضعف المادي، والأزهر لا يستطيع القيام بذلك، فهذه العلوم تحتاج "لوازم وشروطًا وآلات وصناعات"، وهذه تحتاج إلى الدعم المالي الذي يوفر تلك الأمور، وهي إلى يومنا هذا مكلفة للغاية، وكذلك الباحث أو المشتغل فيها يحتاج إلى المال لتطوير مهاراته وشراء ما يحتاجه لتكرير تجاربه التي قد تفشل مرارًا حتى يصل إلى مراده، ولكن طلاب الأزهر أغلبهم من الفقراء، فلا يمكنهم القيام بهذه الأمور، بخلاف الجبرتي (١) الذي تعرّف عليه الوالي؛ فقد كان محبًا لمثل هذه العلوم، وكان ثريًا بحيث يستطيع توفير ما يحتاجه بنفسه.
وكان يمكن أن يكون هذا التنبيه من شيخ الأزهر للوالي دافعًا لقيام الوالي بواجبه نحو فروض الكفايات، ولكن أيامه محدودة كغيره، ولذا كانت المسؤولية أكبر على المؤسسة العلمية -الأزهر-؛ لأنه مؤسسة مستقرة الحال ومن شأنها العناية بمثل هذا الأمر، وقد يكون اعتذار شيخ الأزهر أشبه بالحيلة النفسية؛ للخروج من المساءلة بأعذار ترفع الحرج عن الأزهر، وإن كان الباحث المدقق لا يُغفل الأثر السياسي وخطره في عدم تحقق فروض الكفايات، ومن خلال المقارنة بتاريخ الأمة القديم أو بالمقارنة بغيرنا من الأمم كما حدث في أوروبا الحديثة نجد الصلة البارزة في باب العلوم الدنيوية بين السلطة والمؤسسات العلمية، حيث نجد الدعم السخي والحث والجوائز والتشجيع والحماية والرعاية من قبل السلطة للمؤسسات العلمية والعلماء، والعتب هنا على مؤسسة كالأزهر، أنه كان قائمًا بنفسه وعنده بعض الأوقاف، مما يجعله قادرًا على تحقيق شيء من الأمر. ومع ذلك فعلينا أن نتذكر بأن "العلوم الدنيوية" مرتبطة في تلك المرحلة بحاجات الدولة، والدولة قد دخلها الضعف والتخلف، بخلاف "العلوم الدينية"؛ فهي مرتبطة بهوية الأمة وواجبها العالمي، ولذا سيبقى هذا الدين محفوظًا بأمر الله سبحانه، ويظهر كل فترة من يجدد للأمة أمر دينها، وعلى هذا فإن مساءلة الأزهر
(١) انظر: ترجمته في كتاب ابنه عبد الرحمن، تاريخ عجائب الآثار ١/ ٣٠٨ وما بعده.