ليتبنى معالجة أوضاعه، ولاسيّما في مواجهة الأفكار الغازية.
عندما تأخر الأزهر -فضلًا عن غيره- عن المواجهة الفكرية والعلمية حول الموقف من العلوم الدنيوية رغم اتساع دائرة الاعتناء بها، ومع الضعف في اتخاذ الموقف الصحيح والضعف في بيان الموقف الصحيح والمناسب، عندما لم ينجح الأزهر في ذلك تولى إدارة الموقف رجل من خارجه، جاء ليستقطب في تسع سنوات خيرة الشباب، واستطاع أن يفرض رؤية جديدة وتصورًا جديدًا أذهل الشباب آنذاك، حملهم على اتِّباعه فيما أصاب وفيما أخطأ، وذاك الرجل هو جمال الدين الأفغاني.
يتميز الأفغاني عن علماء الأزهر بإدراكه لطبيعة التحدي وإن لم ينجح في تقديم العلاج، فهو الذي ردّ على الدهريين والماديين والدارونيين، وهو الذي رد على رينان، وهو الذي تكلم على العلاقة بين الدين والعلم بصورة أوسع مدركًا لتفاصيل المشكلات القائمة بينهما والتحديات الناجمة عن احتكاكهما، لقد تجاوز التردد في الفتوى أو الاعتماد على رؤية الغزالي؛ لأن العلوم والأفكار والفلسفات قد تغيرت كثيرًا. كما أنه تجاوز مشكلة الموقف السلبي، فإذا كانت الفتاوى السابقة لا تتعدى تجويز البعض، وتحريم البعض، والتوقف في البعض، لكنها لم تتجاوز ذلك إلى المشكلات التي تعصف بعقول المتعلمين والمطلعين على الأفكار الجديدة، فكانت حال أحدهم تتذبذب بين الاستسلام لتلك الأفكار أو رفضها مع حيرة في العقل وصراع في الصدر، فجاء الأفغاني وتعامل مع مشكلاتهم ولمس أوجاعهم، فنظر ونقد، وكشف لهم الصحيح منها وغير الصحيح -بحسب اجتهاده- ودفع بمن حوله إلى تجاوز مسألة التعلم إلى التفاعل والنقد، بل الهجوم على تلك الأفكار التي تخالف الدين ولا سند لها من عقل أو علم.
وقد نجح "الأفغاني" في استقطاب خيرة الشباب آنذاك والذين كان لهم شأن لا يُجهل في العالم الإِسلامي، وكان أميزهم الشيخ "محمد عبده"، الذي تولى إكمال مسيرة شيخه، فحاول معالجة التوتر الحاصل في نفوس الأجيال حول العلاقة بين الدين والعلم في أثناء تفسيره للقرآن وغيره، ورد على الهجوم الكاسح الذي اتهم المسلمين، بل اتهم الإِسلام بأنه عدو العلم والعلماء، فردّ على "فرح أنطون" وردّ على "هانوتو"، وقام بجهود كثيرة لإصلاح الأزهر.