للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و"الهلال"، "وهذا النوع الأخير الذي تمثله هاتان الصحيفتان هو الذي يعنينا في هذا المكان؛ لأن أصحابه هم الذين تزعموا الدعوة إلى العلمانية والتحررية في الفكر العربي الحديث. وخطورة هذه الصحف لا ترجع إلى ما كانت تذيعه من آراء فحسب، ولكن أهميتها الكبرى ترجع إلى أنها كانت مركزًا لتنشئة الجيل التالي من الصحفيين على هذه المبادئ العلمانية، وهو الجيل الذي ربى بدوره جيلًا آخر، جاءت وتجيء من بعده أجيال على شاكلته، فلم نبلغ منتصف القرن العشرين، حتى كانت الصحافة كُلها في أيدي العلمانيين" (١).

وفي موطن آخر ذكر بأن مؤسسيها وغيرها ممن تعلم في الكلية البروتستانتية السورية، الجامعة الأمريكية فيما بعد، ثم قال: "واهتمت مجلة "المقتطف" بالعلوم الطبيعية وبالكشوف العلمية والصناعية الحديثة، بينما اتجهت "الهلال" إلى الدراسات الإنسانية، من أخلاق واجتماع وتاريخ ولغة وأدب وآثار"، واشتركتا في نشر روح علمانية بصورتها "التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، التي تعتبر العلم بمعناه الغربي الحديث الذي يقوم على التجربة وعلى منطق البحث العقلي، لونًا من العبادة التي تستحق أن يُكرّس لها الإنسان عمره، والتي يجب أن تقوم مقام الدين في التمييز بين الخير والشر، بناءً على نُظُم إنسانية "عالمية" يلتقي عندها أفراد البشر جميعًا، بإقرار العقل لما تتضمنه من الأفكار ومن المبادئ الخلقية. وقد تجنبت المجلتان كل ما يتصل اتصالًا مباشرًا بالسياسة المحلية أو الدين، ولكنهما كانتا تسيران على تخطيط ثابت مدروس تَخْفى آثارُه على غير المدقق البصير، وتعملان في بطءٍ دَؤوب على الوصول إلى أهدافهما.

فكان كلُّ ما ينشرانه يُقِرّ في أذهان القراء وُيعمِّق في وعيهم تصورًا جديدًا للحق: ما هو؟ وكيف ينبغي أن نبحث عنه؟ وماذا يجب على القارئ العربي أن يعرف لكي يصل إليه؟ هذا التصور الجديد يقوم على أن العلوم أساس الحضارة "الصحيحة" وأن العلوم والمذاهب التي تتضمنها الحضارة الغربية ذات قيمة عالمية"، وأنه يمكن إيجاد نظم اجتماعية تستند إليها، وأن النظم والتصورات القديمة "التي تقوم على الإيمان وعلى الدين، أو ما يسمونه "الميتافيزيقا" أو "العقلية الغيبية"، ليست إلا طورًا من أطوار البشرية في طفولتها الأولى، لا تلبث


(١) من كتابه: الإسلام والحضارة الغربية ص ٥٤ - ٥٥ مع بعض الاختصار.

<<  <  ج: ص:  >  >>