وهم من ألمح إلى أنهم تركوا المهم مثل "المسائل الصناعية" والانشغال بموضوع ليس من عرضه في ذاك الوقت كبير فائدة، مع أنه لو عرض بموضوعية وعلمية دون استفزاز للقارئ واصطناع المشاكل لما وقع من عرض هذه القضايا مشاكل واختلاف، فإذا كان الموضوع "أشهر من نار على علم، وأوضح من الصبح لذي عينين، وقد أجمع عليه سائر علماء المشرق والمغرب، وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم يطالع ويفهم"، فهل يستحق كل هذا الصراع والإشكال؟ لا شك أن في المقال مبالغة في موضوع القضية، فإن الاعتراضات ما زالت تظهر هنا وهناك، فهناك من لم يتقبلها، وحال بلاد المسلمين آنذاك لم يكن يُمكّنهم من إثبات صحة هذه المسألة أو نفيها، وليست الإحالة على الغرب آنذاك في مثل هذه المسائل بحجة لإثبات المسائل، وقد كان المطلعون على الغرب عادة ما يعرضونها بصيغة التمريض (١) ويكلون علم ذلك إلى رب العالمين حتى يظهر في المسلمين من نثق بعلمه وصدقه وعدالته.
كان يمكن أن تكون مسألة يسيرة لولا ما نجده من نصوص دينية ظاهرها -ونركز على مسألة الظاهر- يتعارض مع هذه المسألة العلمية الفلكية، فإن تعظيم المسلم لكلام الله سبحانه وما أُخبرنا به هو فوق كل ما يقوله البشر، فلا يجوز التهاون في خبر السماء لقولٍ جاءنا ما لم يكن لدينا من العلماء العدول الثقات من يوضح حقيقته، هكذا كانت حال أهل العلم في الجملة آنذاك، وهنا بالذات تظهر حساسية إبراز مثل هذه المسائل من قوم دون أن يكون لديهم أو لدينا من يستطيع الجزم بصحته أو خطئه.
نعود الآن إلى وضع هذه المسألة في أعداد المجلد الأول من مجلة المقتطف لنتلمس طبيعة الإشكال الذي أوجدته هذه المجلة حول الموضوع، ففي مقال "العلوم الطبيعية" افتتحت ببيان أهميتها، ثم قالت: "يزعم البعض أن العلوم الطبيعية مضرة تشكك في ما أوحي به في الكتب المنزلة وينكرون منافعها، ويزعم غيرهم أنها تشكك في الدين ويقرون بمنافعها، وغيرهم أنها صادقة نافعة ويكذبون الوحي لأجلها، ويقول الباقون: إنها مصداق الوحي، بهجة العقول،
(١) انظر: أسلوب حديث الكُتّاب المسلمين عن دخول نظرية الفلك الجديدة في الفصل الثالث.