العظيم، وكلما حققت شرط خيريتها ارتفعت ونفع الله بها، وإذا تكاسلت عن أداء ذاك الشرط أصابها الضعف الذاتي وتسلط عليها العدو الخارجي.
كانت تعلم أن شرط الخيرية يبدأ من الذات بإصلاحها بالتوحيد الخالص والعبودية الحقة. ولذا كانت الأمة في كل مرحلة ضعف تمرّ بها يأتي بفضل الله من يجدد لها أمر دينها، فتظهر على حال أحسن مما كانت عليه. ولم يظهر في تاريخها أن ربطت إصلاحها بتبني نظام خارجي عنها، أو باستلهام حضارة أخرى مغايرة لهوية الأمة. وهذا لا يمنع من وجود استفادة من علوم الأمم الأخرى التي يبرع فيها البشر، كالطب والصناعة والإدارة والعلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، ولم تظهر حول هذه العلوم مشكلة في تاريخ الحضارة الإِسلامية، بل كانت تؤخذ من أهلها، حتى من غير المسلمين، وقد كان أهل الذمة مثلًا فيهم الأطباء والصيادلة والصناع، ويؤخذ عنهم من تلك العلوم النافعة؛ لأنها مما يبرع فيها كل البشر، فكانوا من ضمن الوسائط في نقل تلك العلوم عن الأمم الأخرى.
رؤية أبي حامد الغزالي:
وعندما انتشرت العلوم في الأمة وكثرت معاهدها، ثم اختلط الأمر فيها بسبب ترجمة النافع وغير النافع فجاء بعض أهل العلم لتحديد الموقف منها، وبيان النافع منها وغير النافع، ومن ذلك ما قام به "الغزالي" المتوفى أول القرن السادس الهجري سنة (٥٠٥ هـ) في كتابه المشهور: "إحياء علوم الدين"، فقسم العلوم -لتحديد الموقف منها فيما بعد- إلى شرعية وغير شرعية، وقال:"وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة". ثم ذكر فيما بعد أن "العلوم الشرعية. . . . محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة".
أما غير الشرعية فتنقسم إلى:"ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح":
١ - "المحمود: ما يرتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب. وهو ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة: أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء