المنطقية: أن الحق لا يعارض بعضه بعضًا، وإن وقع توهم التعارض فإما أنه من ضعف النقل أو من الخطأ في فهمه أو هو من فساد العقل وعدم صحة مقدماته أو نتائجه. ويمكن القول: إن السقف الذي وصلت إليه كل المشكلات في زمن شيخ الإِسلام قد أجاب عنها جميعًا، وإن لم نجد نصًا حول جزئيةٍ ما فسنجد من الأصول وقواعد المنهج ما يكفي لمعالجتها. وبهذا وقف شيخ الإِسلام -رحمه الله- مع أكبر مشكله ثقافية عرفها تاريخ الفكر البشري بين الدين وعلومه والعقل وأفكاره ومعارفه. وسيأتي لدفع التعارض مزيد حديث في الباب الثالث.
كانت هذه بعض معالم موقف شيخ الإِسلام ابن تيمية من المعقول في زمنه، وكانت العلوم الإنسانية تدخل فيه. يتمثل موقفه في إعادة تقييم المناهج السائدة ونقدها، وذكر البديل عنها، ثم بيان الموقف من العلوم، من جهة أهمية الانتفاع بالنافع منها وتصفيتها مما اختلط بها من آثار فلسفية ميتافيزيقية، وإزالة معوقات التقدم العلمي كمناقشته لنفاة السببية أو نقده لمعظمي المنهج الصوري على حساب الحسي التجريبي، ومعالجة مشكلة التوتر الكبيرة داخل الفكر بسبب دعوى التعارض بين النقل والعقل.
يندرج هذا الموقف لشيخ الإِسلام في مشروع أكبر له عرفه تاريخ الفكر الإِسلامي، فلم يُعرف باب إلا وطرقه وأعاد تأصيله وفق منهج أهل السنة ومذهبهم، بما يجعل الأمة أقرب لتمثل الإِسلام كما قرره السلف الصالح مع إعطائنا قوة للانطلاق الجديد.
الانطلاقة السلفية للعصر الحديث:
كانت هناك معالم إسلامية شامخة تظهر ما بين فترة وأخرى بعد زمن شيخ الإِسلام -رحمه الله-، ومع ذلك بقي المشروع في حدود النخبة حتى جاء القرن الثاني عشر الهجري ليشهد انعطافة مهمة مع دعوة الإمام المجدد "محمَّد بن عبد الوهاب" -رحمه الله- (١٢٠٦ هـ)، لتدخل الأمة في تاريخها الحديث مع دعوته -رحمه الله- عصرًا جديدًا، عرف معه ظهور الاتجاه السلفي بقوة بعد أن كان غريبًا في وقت اتساع دائرة أهل الكلام والتصوف والتشيع وفرقهم وطرقهم ومذاهبهم، وكانت فرصة تاريخية للأمة أن تبني مشروع انطلاقتها الحديثة على مذهب السلف، بحيث يُعاد إحياء الدين وفق مذهبهم بعيدًا عن البدع والانحرافات، لما في ذلك