وربه ومليكه، وإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا به. ويعلمون أن الأسباب هي مخلوقة لله بمشيئته وقدرته، ولا تزال مفتقرة إلى الله"، إلى أن قال: "فما كان بالأسباب فالله خالقه وخالق سببه جميعًا، ويقولون مع هذا أن الأسباب التي خلقها ليس فيها ما يستقل بالتأثير في شيء من الأشياء، بل لابدّ له من أسباب أخر تعاونه وتشاركه، وهو مع ذلك له معارضات وموانع تعارضه وتدافعه، كما في الشعاع الحادث عن الشمس، والاحتراق الحادث عن النار، ونحو ذلك، فإنه لابدّ مع الشمس من محلّ قابل لانعكاس الشعاع عليه، وهو مع ذلك يمتنع بحصول الحائل، كالسحاب والسقف وغير ذلك من الموانع، وبكل حائل" (١). والمسألة قد ناقشها شيخ الإِسلام في مواطن كثيرة، لاسيما وهو مبحث له علاقة بمباحث الربوبية والقدر والمعجزات، وهي أبواب قد وقع فيها ضلال كبير بين طوائف الملل ومذاهبها، والمقصود هنا أنه أيضًا له علاقة بجانب العلوم الطبيعية، ومنهجها التجريبي القائم على الاستقراء، ولا يستقيم أمرها إلا بإثبات السببية، ولكن إثباتها عند الماديين يختلف عن إثباتها عند أهل السنة، حيث يجعلونها مستقلة بذاتها غير مفتقرة لموجدها، وهذا من الإلحاد في توحيد الربوبية، فمنهج أهل السنة هو القول الوسط في أهل الإِسلام كما أن أهل الإِسلام بين أهل الملل والنحل والأديان، فمع إثبات السببية والأثر والتأثير والعلة وقوى الطبائع يثبتون مع ذلك افتقارها الدائم لموجدها ومدبرها سبحانه.
٣ - معالجة دعوى التعارض بين العقل والنقل:
لقد كانت هذه الدعوى من أكبر المسائل التي عالجها شيخ الإِسلام -رحمه الله- في كثير من فتاويه وإجاباته وكتبه، نجدها في أغلب ما كتب، ونظرًا لأهميتها فقد خصص لها أهم كتبه وأعظمها شأنًا وهو "درء تعارض العقل والنقل" ذاك السفر العظيم الذي قلّ نظيره في الفكر الإِسلامي والإنساني، وقد ناقش شيخ الإِسلام في كتابه هذا وبقية كتبه ما وصل إليه الفكر الإنساني من توهمات بين العقل والنقل، فأزالها عن بكرة أبيها، ونقد كل المناهج الضعيفة التي حاولت معالجة المشكلة، وجاوب عن المشكلات المتوهمة، ووصل إلى النتيجة