للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"العصراني" على هذا الاتجاه، فهو لم يواجه مشكلات موروثة وإنما مشكلات معاصرة، فمجتمعه قد عرف غزوًا كبيرًا جديدًا لم يكن معهودًا، ولاسيّما في ميدان العلوم والأفكار، فجاءت محاولتهم للتعامل معها، وبما أنها مشكلات عصرية جديدة كان من المناسب تسمية أصحاب هذا الاتجاه بـ"الاتجاه العصراني". وحقيقته هو محاولة التوفيق بين الدين والصحيح من الأفكار والعلوم الجديدة، والعمل التوفيقي عمل مشروع بضوابطه وشروطه، والخطورة عندما يتحول إلى عمل تلفيقي أو إلى عسف لصالح الأدنى. وهو منهج لا يُستغرب ظهوره في مثل هذه الحالات، فالمجتمع يعج بالأفكار والعلوم الجديدة التي تتعارض ظاهرًا أو حقيقة مع صورة الدين في ذاك المجتمع، وهي صورة دينية يغلب عليها التصور "الصوفي / الكلامي"، وإنما المهم سلامة شروطه وأركانه وتطبيقاته (١).

وبقدر ما يكون وجود هذا المنهج أمرًا يتوقعه الذهن لمعالجة هذه الحالة، فهو أحد المناهج المهيأة للخروج في مثل هذه الأجواء الثقافية والفكرية، ومع ذلك فهناك حالات مشابهة كانت قد سبقت في الظهور في الهند وفي عاصمة الخلافة العثمانية. كما أن هناك حالات أخرى قد سبق ظهورها في أوروبا مع الديانتين الأشهر هناك "اليهودية - النصرانية"، حيث سبق لأتباع تلك الديانتين الاصطدام بالمستجدات الفكرية والعلمية. بدأ الأمر بالرفض من قبل الكنيسة بل إقامتها حربًا شديدة على المفكرين والعلماء الجدد، ثم ضعف موقف الرفض الديني لأنه كان يحمل الخطأ والانحراف والضعف في بنيته، فجاء تيار آخر معارض فرض نفسه بقوة، وهو التيار العصراني، الذي يراعي في المقام الأول التوفيق بين الدين اليهودي أو النصراني مع العلم الحديث (٢).

من بين التعريفات لها، أنها: "حركة فكرية واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى" داخل اليهودية وداخل النصرانية، وداخل الإِسلام أيضًا، وعرفت في الفكر الغربي باسم العصرانية " modernism". وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد الانتماء إلى هذا العصر، ولكنها مصطلح خاص -إذ تعني العصرانية في الدين:


(١) انظر. مبحث دعوى التعارض من الباب الثالث من هذا البحث، فهناك مزيد دراسة.
(٢) انظر: الدراسة المميزة حول الموضوع لبسطامي محمَّد سعيد، مفهوم تجديد الدين.

<<  <  ج: ص:  >  >>