والحاجيات، ومن ذلك فتح الباب لما ينفع وحثّ بعض الناس على تعلمه بوضع الحوافز وغيرها، وهي أمور لا تحتاج لإيجاب وإنما يكفي التحفيز؛ لأننا لن نُعدم في كل علم وفي كل فن وفي كل مهنة من يهوى تعلمها ويحب الاشتغال بها، قال النووي - رحمه الله -: "وأما الحرف والصناعات وما به قوام المعايش كالبيع والشراء والحراثة وما لابد منه حتى الحجامة والكنس فالنفوس مجبولة على القيام بها فلا تحتاج إلى حثٍّ عليها وترغيب فيها، لكن لو امتنع الخلق منها أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فهي إذن من فروض الكفاية"(١).
وأختم هذه الفقرة بفتوى معاصرة جامعة ومهمة في هذا الباب ضمن فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وقد جاءت جوابًا على سؤال أورد صاحبه آيات النظر في الآيات الكونية وغيرها، سائلًا: هل يناسب الاستدلال بها على علوم طبيعية؟ فمن الجواب:"ومن هذا يتبين أن القصد من هذه الآيات إثبات أصول دينية هي توحيد الإلهية وبعث العباد يوم القيامة للجزاء، وصِدق النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعواه الرسالة، وفي دعوته الناس إلى التوحيد والبعث للجزاء، وقد دل على ذلك ما سبقها وما لحقها من الآيات. ولم يُقصد بها وضع قواعد للصناعة والزراعة، يتعرف الناس منها شؤون دنياهم، أو نظريات هندسية، أو شرح لسننه الكونية، ليتعرف الناس منها علوم الهندسة والفيزياء، وطبقات الأرض، ويصلوا بذلك إلى ما ينهض بهم في دنياهم من مخترعات، إنما وصل إلى ذلك من وصل بتوفيق الله، ثم بما وهب الله له من فكر ثاقب، ودراسة محكمة لما سخر الله لهم من ملكوت السموات والأرض وما بينهما، وما أودع الله في ذلك من سنن كونية. فالأصل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التشريع الديني تقعيدًا وتفصيلًا، لا التقعيد والتفصيل للعلوم الكونية، وما جاء فيهما من ذلك فهو قليل وغير مقصود بالمقصد الأول، بل بالتبع، كالأخبار التي وردت في مسائل من الطب ونحوه، وهي جزئيات محدودة، لا قواعد كلية يُرجَع إليها في تشخيص الأمراض، أو يُعتَمد عليها في جميع أنواع العلاج، أو يُتَعرف منها خواص جميع الخامات وما يكون منها علاجًا للأنواع المختلفة من الأمراض".