بخلاف الطائفة الأولى، فمشكلتها أعمق من مشكلة المصدر، فمشكلتهم -الطائفة الأولى- مرض الإلحاد ومرض القلب الذي يُزهدهم في الدين كله، ولذا فإنه لا يناسبهم مناقشة المصدر وإنما ما هو أعلى منه، ويكفي فقط ذكر قولهم الخطير وأبعاده الإلحادية وآثاره، بخلاف الفريق الثاني فهم يُظهرون الإقرار بالدين مع إقصاء مصدره، فهذه مناقشة نقدية لموقفهم:
١ - لا يخالف الاتجاه الإِسلامي في كون العلم التجريبي الصحيح مصدرًا مهما من مصادر الحقائق، ولكنهم يعلمون حدود العلم وإمكانياته، ولهذا لا يجعلونه المصدر الوحيد، وإنما هو مصدر من المصادر، فإذا جاء الأمر إلى الدين: فإن من مسائله ما يصل إليها العلم، ومنها ما لا يصل إليه لكونه من "عالم الغيب"، ولكن الطريق الموصل إليها قد ثبت صحتها عند أهله، وبمعايير موضوعية لا يرقى إليها الشك إلا من سفسط في الحقائق اليقينية. ولهذا يكون الوحي عند الاتجاه الإِسلامي المصدر الأساسي للدين مع الاعتراف بمصدرية العقل والحس فيما يناسبهما، ويتميزون بأنهم اعتصموا بالوحي في أمور الدين: فمنعوا الأقيسة العقلية والوجدانيات الباطنية وأقوال أئمة أو أولياء يدعون العصمة ومعرفة الغيب، قد يصيب أهل المناهج الثلاثة في مسائل ولكن طريقهم محكوم عليه بالانحراف ما لم يعتصم أهله بالوحي، فالذين يتركون الوحي والاعتصام به ويقدمون العقل أو الكشف أو شخصًا معصومًا يزعمونه ضلالهم وانحرافهم لازم لهم لا محالة؛ لأنهم يخوضون في أبواب لا يمكن معرفتها إلا بالوحي. ويقابل هؤلاء من جعل الحل هو في إبعاد الوحي بحجة أن أهل الأقيسة العقلية أو الأذواق الكشفية أو متبعي الأشخاص المدعين للعصمة يأتون بما لا يمكن التأكد من صحته. فهدى الله أهل السنة ليكونوا وسطًا في هذا الباب، فيقبلون الحق من المصادر، ويجعلون كل مصدر لما يناسبه من الأبواب.
٢ - ينطبق على موقف الاتجاه التغريبي التوفيقي حكمهم على غيرهم؛ فإن مذاهبهم الفلسفية التي سلكوها واتبعوا بما أعلنته من ثنائية "العقل والوجدان" هي أول من ينطبق عليها حكمهم، فكما سبق مع الصنف الأول: يبقى المذهب الفلسفي مذهبًا ذاتيًا لا يخضع للتحقق العلمي، ومن ذلك قسمتهم الثنائية التي لا يمكن التحقق العلمي منها بموازينهم أنفسهم، حيث تبقى قسمة فلسفية وليست قسمة علمية، ولذا فموطنها الوجدان.