وأيضًا فإنه مع التغيرات المعاصرة للعلم تبعه تغيرات -كما سبق- في الموضوعية، وهو تغير يكشف صعوبة الموضوعية، وأثر التحيّز على أصحابها، ومن ذلك ما نجده من استبدال الموضوعية بـ "الذاتية المشتركة" في العلوم الاجتماعية، ويوضحها أحدهم فيقول:"إن الإدراك ليس فعلًا سلبيًا، ولكنه تأويل إيجابي للواقع الخارجي، فالواقع ليس شيئًا معلومًا ومسلمًا به، ولكننا نقوم إيجابيًا ببنائه "بأنفسنا"، ولذلك فإن إدراك أي منا للواقع إنما هو بالضرورة إدراك ذاتي ومرتبط بالشخص ذاته، ولكن لما كانت نظرة الجماعة التي ينتمي إليها كل منا تتضمن بعض أوجه الاتفاق والتجانس فإن أعضاء كل جماعة يشتركون في رؤية "موحّدة نسبيًا" للعالم وفي "تفسير مشترك" للواقع، ولا يشترط أن يكون هذا الفهم المشترك للجماعة متطابقًا تمامًا مع الواقع الخارجي، فالواقع الخارجي -كما يوجد بصرف النظر عن من يدركه- لا يمكن ببساطة أن نعرفه موضوعيًا، فالواقع كما يظهر لنا في الرؤية المشتركة يكون ذا صدق ذاتي مشترك. . . . أما عن الصدق الموضوعي فلا يمكن الوصول إليه"(١). ولا شك أن هذا التصور الجديد للموضوعية يفتح الباب لتنوع النتائج، وتنوع الإجابات، وتنوع التفسيرات، فالحقيقة الخارجية مرتبطة بنظرة جماعة عبّر عنها فرد من أفرادها، أي أنها نظرة ترتبط بثقافة مجموعة ومعرفتها، ويحيلنا هذا إلى إجابات مختلفة عن الحقيقة ترتبط باختلاف تصورات المجموعات. فإذا أصبحت الموضوعية بهذا الشكل -على أنه شكلها حتى قبل هذه التحولات رغم المكابرات- فمن غير الموضوعي استبعاد الوحي بوصفه أساسًا للمعرفة؛ لأنه الوحيد القادر على رفع الاختلاف والوصول لنتائج موضوعية تركن لها النفس بكل طمأنينة، وسيبقى الاختلاف بدونه قائمًا مهما كانت الاحتياطات موجودة من أجل الوصول للحقيقة، قال -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)} [البقرة: ٢١٣].
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: " {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} وهو الإخبارات
(١) انظر: التأصيل الإِسلامي للعلوم الاجتماعية ص ١١٥ - ١١٦.