علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانًا لها بالقصد الأول: لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلًا. فإن العلوم الرياضية: من حساب العدد، وحساب المقدار الذهني والخارجي، قد علم أن الخائضين فيها من الأولين والآخرين مستقلون بها من غير التفات إلى هذه الصناعة المنطقية واصطلاح أهلها. وكذلك ما يصلح من العلوم الطبيعية الكلية، والطبية، تجد الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشيء من صناعة المنطق. . . ." (١).
فشيخ الإسلام - رحمه الله - يبين في كلامه -وأمثاله كثير- بأن العلوم البشرية المادية لا يفيدها المنهج الأرسطي، وإذا كانت أهم العلوم الدنيوية وأدقها وأشهرها من ذاك الزمن -وإلى اليوم- وهي: "العلوم الرياضية والطبيعية" في غير حاجة لمنهجه، وتجد مع ذلك أيضًا الحاذقين فيها غير مستعينين بالمنهج الأرسطي فلم التعصب له؟! ومفهوم كلامه - رحمه الله - أن هذه العلوم تطورت بدونه، ويمكننا بمفهوم المخالفة أن نقول: بأن هذا المنهج قد لا يفيدها، وإن كان مطلب شيخ الإسلام في المقام الأول هي العلوم الدينية؛ فكأنه يقول: إذا كانت العلوم المادية لم تنتفع بالمنهج الأرسطي مع أنه ميزانها في المقام الأول كما يزعمون؛ فمن باب أولى عدم انتفاع العلوم الدينية به. وسنجد أن أوروبا لم تحقق تطورها في باب العلوم ولا ثورتها العلمية إلا بعد هجومها الكبير على أرسطو، وما تمّ ذلك عندهم إلا بعد نقد شيخ الإسلام بقرنين تقريبًا.
وإن المسلم ليعجب اليوم ويألم من حالنا، فبعد أكثر من سبعة قرون من جهد شيخ الإسلام - رحمه الله -، ها نحن نرى بعض الناس يعظمون "أرسطو" ومنطقه أو آثاره في ما يسمى بالفلسفة الإسلامية والعلوم الكلامية، وكان الأصل أن نستفيد من نقده ونواصله لكي نتخلص من التركة اليونانية المعيقة لمسيرة أمتنا العلمية والفكرية، إلا أن الأمر عكس ذلك، فهذا هو منطق أرسطو يُدرس في معاهد إسلامية وكأنه شرط الفهم والعلم ودون نقد حقيقي له، ونجد أيضًا تركة أرسطو وغيره ما زالت متحكمة إلى حد بعيد بعلم الكلام الإسلامي إلى اليوم، بينما نجد أهله وبعد قرنين أو ثلاثة من دعوة شيخ الإسلام يُنجزون قطيعتهم مع أرسطو
(١) مجموع الفتاوى، ابن تيمية ٩/ ٢٠ - ٢١، وانظر: المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، مصطفى طباطبائي ص ١٢٦ وما بعدها.