المعروفة من تركيب أجهزتها وطريقة عيشها ليدل العاقل عما خلف ذلك، أما ما أضافه العلم المعاصر فهو الاكتشافات لعالم الكائنات المجهرية بعد تطور الأجهزة الحديثة، وهو عالم مدهش كان خافيًا مئات السنين عن الناس، وإن هذا العالم المخفي ليفتح القلب السليم للتصديق بالغيب الحقيقي الذي جاء خبره من السماء، فإن هذه الكائنات ما زال جزءٌ كبيرٌ منها في عالم الغيب، وما كشف عنها هو السطح في كثير منها وعمقها ما زال بعيد المنال، وقد كان نُفاة الغيب في فترة قريبة يعلنون للعالم الانتهاء من معرفة العالم، فيصدمهم ما يوقف مثل تلك المقولات ويخفف من غلوها، فيظهر من الكائنات الصغيرة ما يذهب بالألباب من طريقة عيشها وحياتها وعملها وأدوارها التي تقوم بها، وازدادت دهشة العالم مع مكتشفات علم الجينات في هذا القرن، والاقتراب من إكمال كشف الخارطة الجينية داخل الخلية، وما كُشف في هذا الباب له دلالات مهمة -فوق ما كشف في الباب المادي- من سعة عالم الغيب المخلوق الذي يحيط بنا فكيف بالغيب البعيد عنا؟!
سأكتفي في هذا القسم بشيء مما كشف حديثًا من عالم الجينات، وقد قال -تعالى-: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)} [الذاريات: ٢١]، وإن في المعالم الظاهرة للإنسان ما يكفي من عجائب الخلق، فكيف لو نظرنا إلى ما هو أبعد من ذلك ولاسيّما في خلايا جسده، فكما أن الذرة هي العنصر المهم في عالم المادة فإن الخلية هي الكائن المهمّ في عالم الأحياء، و"يحوي الجسم البشري ما يقرب من ١٠٠ تريليون "مليون مليون" من الخلايا، معظمها يقل عرضه عن عُشر من المليمتر. ويوجد في الداخل من كل خلية بقعة سوداء تسمى النواة. ويوجد في النواة مجموعتان كاملتان من الجينوم البشري. . . . وتأتي إحدى مجموعتي الجينوم من الأم والأخرى من الأب. ومن حيث المبدأ، تحتوي كل مجموعة على الجينات نفسها التي يبلغ عددها ما بين ٦٠ ألف جين و ٨٠ ألفًا، وهي موجودة على الكروموسومات الثلاثة والعشرين نفسها"(١).
يقول د. الخلف: "لقد شاء الله -جل وعلا- أن يضع أكبر سر من أسرار خلق الإنسان ضمن ما يسمى المادة الوراثية الموجودة في كل خلية من خلايا
(١) الجينوم: السيرة الذاتية للنوع البشري، مات ريدلي، ترجمة د. مصطفى فهمي ص ١١ - ١٢.