يوجد كائنات تصْغر نملة صغيرة آلاف المرات. فوجود بعض ما يُقدّر الله خفاءَه عنا أمر ممكن، وبما أن الدليل النبوي قد جاء بذكرها فقد عرفنا وجود مثل تلك الغيبيات المخفية عنا، وليس لنا إلا التسليم بها، وعدم العبث بتأويلٍ يخرجها عن مدلولها أو التكذيب بها، ومثل ذلك -مع المثل السابق- لو لم تحتمل عقول بعض الناس وجود كائنات مجهرية بذاك الصغر، فكذب بها أو أوّلها بحجة استحالة وجودها، بينما هي اليوم مما يُسلّم بها الناس. وقد سبق في المبحث الأول أنه ما إن ظهر التكذيب بالغيب في القرون الأخيرة في الفكر الغربي حتى جاءت الأجهزة الحديثة التي تساعدنا على رؤية الكائنات المجهرية مما يدفع العاقل على التواضع، وعلى إدراك ضآلة ما نعرفه مما حولنا، وعندما سأل بعضهم تعنتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ من الغيب، جاءهم الجواب بضآلة ما عند الإنسان من علم، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)} [الإسراء: ٨٥]، فالغيب كبير، وما عند الإنسان من علم هو قليل، فلا يغترّ بذلك. قال ابن كثير في تفسيره:"وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}؛ أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}؛ أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى.
والمعنى: أن علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر: أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة، فنقر في البحر نقرة، أي: شرب منه بمنقاره، فقال: يا موسى، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا قال تبارك وتعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} " (١)، وقد قال -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)} [الكهف: ١٠٩]، وقال -تعالى-: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)} [لقمان: ٢٧].