الكفار بذلك فقال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}[يونس: ٣٩]، وإنما الأمر: هل هناك دليل آخر؟ فكيف وهناك أعظم دليل، وهو الخبر الصادق، ومعلوم أن المطالب الإلهية لم يتركها الله سبحانه لعقول البشر وعلومهم، وإنما أرسل الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج التي لا ينكرها إلا ملحد معاند فرعوني المذهب.
فإن فرعون قد جاءه البرهان البين الذي لا شك فيه، قال -تعالى-: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨)} [الذاريات: ٣٨]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: بدليل باهر وحجة قاطعة، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أي: فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين، استكبارًا وعنادًا"(١).
ومع ذلك جحد وأنكر، ولم يكتف بذلك، بل أحال إلى الحسّ، وقام بالتمثيل على من حوله بأسلوب سخيف، وادعى أنه سيبحث عن الرب بطُرُق حسيّة، قال -تعالى-: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩)} [القصص: ٣٨ - ٣٩].
وهذه حال كل جاحد ومنكر للغيب، إنه فرعوني النزعة والمذهب أو فيه خصلة من الفرعونية، فقد جاءهم الحق والبرهان والسلطان المبين، ومع ذلك ينكرون ويكذبون ويجحدون، ثم يقولون: إن أدلتنا الحسية لم تدلنا على الغيب، ومع أن أسلوب فرعون هو الأسلوب الساذج الساخر عند طلب بناء الصرح ليبحث عن الغيب، إلا أن مُلحدي العصر في اعتمادهم على صرح العلوم الحسية هو من جنس ما فعله فرعون وإن كان بأسلوب عصري فاتن، وما ذاك إلا مزيد من التلبيس، وإلا فإن البشر لا يعيشون دون غيب، والغيب يحيط بالإنسان من كل جانب، فإن كثيرًا مما كشف من عالم الصِّغَر في المادة وذرّاتِها والأحياء وخلاياها، بل الكائنات المجهرية قد كانت من الغيب عند البشر طول قرون مضت، وربما لو جاء نبي من أنبياء الله بذكرها لكذّبَهُ من في قلبه مرض، وقد يجد المنكر فرصته في التكذيب، ولقال: انظروا ماذا يقول هذا النبي! أيُعقل أن