الملائكة والجن وسخر ممن يؤمن بها، ومما زاد البلاء أن بعض الإِسلاميين من أمثال العصرانيين قاموا بتأويل ما ورد من ذكر الملائكة والجن بما يخرجهم عن كونهم خلقًا من خلق الله (١)، ومن دلالات ذلك حجم الضغط الذي تضغط به الأفكار المنحرفة على الناس في الأزمان الأخيرة مما دفع بمثل هؤلاء إلى التساهل في أبواب الغيب بتأويلها وتخريجها مخارج تبعدها عن حقيقتها الواردة في الوحي.
وقد كان لسيد قطب وقفات مهمة حول هذا الباب، لاسيّما أنه قد عاصر طائفتين، طائفة تؤول الغيب وطائفة تُكذّب به وتنكره، وكل ذلك بحجة العقلانية والعلمية، ومما كتب عن منكري الملائكة:"والإيمان بملائكة الله طرف من الإيمان بالغيب،. . . . وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن "إنسانيته" بخصائصها المميزة .. ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته. فإذا لم تلب هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب -كما منحها الله له- اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب.
والإيمان بالملائكة: إيمان بحقيقة غيبية، لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له .. بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية. ومن ثم شاءت رحمة الله بالإنسان -وهو فاطره وهو العلم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه- أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثلها -ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها- وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن بَالُه ولا يقر قراره قبل الحصول عليها! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا
(١) انظر حول رأيهم المشتبه في الملائكة: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، فهد الرومي ص ٦١٦ وما بعدها، وانظر حول تأويلاتهم لشأن الجن: المرجع السابق ص ٦٣١ وما بعدها، وانظر: عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة، د. عبد الكريم عبيدات ص ١١٥ وما بعدها.