وكانت الكلّية الشرعية (كما سيأتي في هذه الذكريات إن شاء الله) في عمارتين في آخر «البَسْطة»، قرب مدرسة المَقاصد. وكنت أنام وحدي ليس فيهما غيري، فطال سهري تلك الليلة، وضاق صدري ولم أعُد أستطيع البقاء، فخرجت فركبت الترام إلى ساحة البرج.
ساحة البرج الآن -كما سمعت- خراب يَباب، موحشة في النهار مظلمة في الليل، قد صارت عماراتها أنقاضاً تعشّش فيها البوم والغربان، تعشّش حقيقة لا رمزاً كما يقول الشعراء، لا يعيش فيها إنسان. وقد كانت يومئذ لُبّ البلد، يؤمّها طلاّب المال والهائمون بالجمال، والذين يحبّون أن يتسلّوا، ما لهم أعمال. اجتمعَت يومئذ المُتَع فيها ولكنْ نَأَت التقوى عنها. كانت تقوم وراء بيوتها، على بُعد أمتار معدودة من وسطها بيوت البغايا شامخات كالقصور، سابحات بالنور، على أبوابهنّ لوحات كبار بأسمائهن كما تُعلَّق اللوحات على أبواب المحامين والأطباء والتجّار! كفرت بأنعُم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف.
وما أقول هذا شامتاً، فهي بلدي. أأشمت ببلدي؟ ولكن أقوله ليتوب الغارق بالمعاصي ويؤوب، وليعتبر من لا يزال على الشطّ لم يدنُ من اللجّ ولم يدركه بعدُ الغرق. وأشهد لقد دخلت عشرين بلداً من بلدان أوربّا، كنت أرى منها ما يراه الماشي في الطريق، لا أدخل الزوايا ولا أكتشف الخبايا، فما رأيت في واحدة منها مثل الذي كنت أراه وأنا أمشي في بيروت ممّا لا يرضاه الله ولا تُقِرّه أطهار الناس.