للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطبيعة أبرع في الألوان ولكن الفنّ البشري أبرع في الأصوات، والطبيعة ليست موسيقية فنّانة ولكن عندها من الألوان ما لا نهاية له. هذا الذي قدّره الله عليها وكتبه لها. هل في الطبيعة من الأصوات إلاّ هدير الموج وخرير النهر وحفيف الأشجار وتغريد البلابل وسجع الحمام وقصف الرعد؟ هذه موسيقاها، ومِن هنا كانت الموسيقى البشرية أسمى الفنون لأنها ابتكار وتجديد، على حين الأدب والتصوير تقليد.

وقعدت على شاطئ البحر ساعتين، وإذا بالمطر يتساقط على وجهي ويدي. فنظرت فإذا السحب قد نسجَت في السماء ليلاً آخر، وإذا المطر يهبط متلاحقاً ثم يستحيل بَرَداً طيّاشاً، ثم تهبّ الريح وتُجَنّ الطبيعة جنونها. فلبثت مكاني لا أبالي بها، لأنني تصورت سعة هذا الكون العظيم الذي خلقه ربنا العظيم فرأيت البحر نقطة في عين زُحَل أو المشتري، ورأيت زُحَل أو المشتري نقطة في عين نجم من هذه النجوم التي لا يزيد مرآها عن نقطة مضيئة في قبّة الفلك، فتركتها وانصرفت إلى نفسي أفكر.

إن العام يتَصَرّم وليس حولي صديق أطمئنّ إليه وأحمل معه أعباء الوداع، وأشاركه دمعة يذرفها معي على الفقيد الراحل وبسمة يمنحها هذا المولود الجديد. لقد انتظرت أن تشعر الطبيعة بي، وأين -لَعَمْري- مكان الشعور من الطبيعة؟

أنا أشعر بجمال الربيع، ولكن هل يشعر الربيع بجمال نفسه؟ لقد رأت الكونتيسة دي نواي في الطبيعة مخلوقاً حياً ذا شعور، فعانقت الصباح وجالسَت المساء، ولكن ماذا رأى الصباح

<<  <  ج: ص:  >  >>