للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى كان جلّة علماء حمص وحماة وبيروت، ومَن أسرع من علماء حلب قد وصلوا دمشق، وامتلأت بهم داره الكبيرة الواسعة، بل امتلأ بهم الجامع الأموي نفسه. امتلأ بهم وبالناس الذين أقبلوا عليه لمّا سمعوا الخبر. اجتمع العلماء وتداولوا في اختيار مَن ينعاه للناس، ثم شرّفوني بأن اختاروني أنا لهذا الموقف. لا أقول هذا ادّعاء، وكيف وقد عرفه الناس جميعاً؟ وأنا حين أذكره أقرّر حقيقة واقعة لا أسوق قضية فخر، وأحمد الله على هذا.

وكان رأي أكثرهم أن تكون خطبتي في المقبرة، وأصررت على أن تكون في الجامع لأن الناس مجتمعون فيه والخطاب بين الجدران أجمع للصوت من الخطبة في المقبرة، والناس في المقبرة متفرّقون والصوت فيها يضيع. ولم نكُن عرفنا يومئذ هذه المكبّرات، إنما كنّا نخطب بحناجرنا وحدها.

ولمّا علوت المنبر لأتكلم وجدت الحرم كله والصحن كله ممتلئَين بالناس، حتى إنك لو رششتهم بالماء لما وقعت نقطة منه إلاّ على إنسان. وكنت أُسمِع -بحمد الله- المسجدَ كلّه بصوتي بلا مكبّر. ولقد خطبت فيه من قبل كما مرّ بكم في هذه الذكريات عشرات من المرّات بعد صلاة الجمعة، ولكني لم أجد قط حشداً مثل هذا الحشد ولا آذاناً مصغية كالذي وجدتُه هذه المرّة. وكانت خطبة مرتجَلة ما أذكر الذي قلته فيها، ولكن أذكر أثرها في نفوس الناس يبدو على وجوههم ويُطِلّ من عيونهم. وإني لأكتب هذه الأسطر بعد خمسين سنة والمشهد ماثل في ذهني كأنه أمامي أبصره بعيني.

<<  <  ج: ص:  >  >>