للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخرجَت الجنازة، وكان طريقها من باب الجامع الجنوبي إلى شارع مدحت باشا الذي يمتدّ مستقيماً من باب الجابية إلى الباب الشرقي. وإذا كان شارع الشانزليزيه في باريس أو الشارع الخامس في نيويورك مشهوراً فإن أشهر شارع في التاريخ هو هذا الشارع، ألا يكفي أن اسمه ورد في التوراة؟ لا أعرف أقدم منه ولا أعظم إلاّ شارع الجمرات في منى، الذي مرّ منه إبراهيم لمّا أُمِرَ في المنام بذبح ولده إسماعيل (إسماعيل لا إسحاق) (١) فذهب لينفّذ الأمر فمرّ من هذا الشارع فعرض له إبليس ثلاث مرّات. إن المكان الذي وقف فيه إبليس في المرّات الثلاث يوسوس لإبراهيم لا يزال معروفاً من تلك الأيام إلى الآن، هذه الأمكنة الثلاثة هي مواضع الجمرات التي نرميها في الحجّ.

أعود إلى ذكر الجنازة. لا، لم تكن جنازة بل طُرُقاً ممتلئة كلها بالناس، ولم تكن موكباً يمشي بل حشداً يقف، أوله في مقبرة الباب الصغير وآخره في الجامع الأموي. لم تعرف دمشق جنازة مثلها إلاّ الذي ذكروه عن جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية، والجنازة التي عرفَتها بغداد (كما وصف لنا المؤرّخون) للإمام أحمد بن حنبل. الجنازة هي مقياس حبّ الناس للإنسان (٢)، لا أن يحفّوا به في حياته حين يُرجى خيره ويُخشى ضره. إنه لا


(١) خلافاً لما ذهب إليه بعض المفسّرين ومنهم القرطبي العظيم، والذي ذهبوا إليه من أثر الإسرائيليات كادّعاء أن آزر ليس أبا إبراهيم.
(٢) كما يقول ابن الجوزي في «صيد الخاطر» الذي حقّقه أخي ناجي وقدّمت أنا له مقدّمة طويلة وعلّقت عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>