كُتبَت لي. قلت: نعم. قال: لا أريد إتعابك، ولكن ما دمت قد جئت فهل تحبّ أن تعطينا نصف ساعة تساعدنا فيها أم أنك على موعد؟ قلت: بل أساعد. قال: شكراً تفضّل. ودفع إليّ مجموعة من البرقيات لرويتر وهافاس (وكانتا هما الشركتين اللتين تتولّيان نشر الأخبار) وقال: أرجو أن تقرأها وتصوغ منها مقالة قصيرة تلخّصها وتجمعها فيها. وكان يريد امتحاني، قلت: حاضر.
وما مرّت ربع ساعة حتى ناولتُه المقالة المطلوبة، وكان قلمي يومئذ أسرع من ذهني، وكان ذهني في ثورة متوقّدة في مضائه وسرعته. فدهش وقال: شكراً، غداً تقرأ مقالك منشوراً. وخرجت وأنا لا أكاد أبصر طريقي من الفرح، أريد أن يعرف الناس كلهم أن مقالي سيُنشر غداً وتحته اسمي! كنت أشعر أنني أمشي على الأرض ولكن لا أمسّها بقدمي، كأني راكب «حوّامة» في يوم لم تكن قد عُرفَت فيه الحوّامات. ولم تذُق عيوني تلك الليلة طعم المنام؛ كنت أرقب الصبح حتى أرى الجريدة ومقالتي فيها. وذكرت كل ما كنت أحفظ من الشعر في الشكوى من طول الليل، وكنت أحفظ الكثير.
وكانت الجرائد تصدر بعد الظهر، فجعلت أدور حول دار الجريدة، حتى إذا صدرَت أخذتها وخفقان قلبي يكاد يطغى على أصوات الشارع، ووقفت إلى جانب الجدار وقلّبتها بلهفة، فإذا المقالة فيها وقد قدّم لها مقدّمة ألبسني فيها ثوباً أكبر مني (١).
* * *
(١) سبقت الإشارة إلى هذه المقالة في الحلقة الرابعة والثلاثين من هذه الذكريات (مجاهد).