من هنا (من جهة الشام) وفيها مدينة أبي جعفر المدوّرة والقبّة الخضراء، والرصافة من هناك.
وتكاملت بغداد، واتصل الشاطئان، وامتدّت الدور وتناثرت القصور، وسكرت بغداد بخمرة المجد والجاه والعلم والفنّ والغناء والسرور، وجاء العصر الذهبي، عصر هارون الرشيد الذي قال للسحابة لمّا رآها:"أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خراجك"، والذي كانت كلمته تمضي في الأرض حتى تصل إلى أبواب الصين وشواطئ الأطلنطي لا يردّها شيء، والذي ملك ما لم يَملك قبله مَلِك قطّ. وقام ليلة يصبّ الماء على يد العالِم أبي معاوية الضرير بعد أن عشّاه معه على مائدته، فقال للعالِم الضرير: أتدري من يصبّ الماء على يديك؟ قال: لا. قال الخليفة العظيم هارون الرشيد: أنا.
فهل ترونه اضطرب العالِم أو اهتزّ؟ لا والله، وبقي يغسل يديه وهو يقول: إنما كرّمت العلم يا أمير المؤمنين.
هكذا كان ملوكنا وهكذا كان العلماء.
لقد صارت بغداد أمَّ المدن وحاضرة الحواضر، وبلغَت ما لم تبلغه روما في سلطانها ولا القسطنطينية ولا المدائن ذات الإيوان. لقد غدت سيدة العالم والبلادُ لها خَوَل، ما يظهر في بلدة طريف ولا ظريف من ثمرات الأيدي ولا من نتاج الطبيعة ولا من حصاد الأدمغة إلاّ حُمل إلى بغداد، وما ينبغ نابغ في مشرق من الأرض ولا مغرب إلاّ أمَّ بغداد؛ فالقوافل أبداً تتّجه إلى بغداد بكل ثمين وجميل، تحمله إليها لتلقيه بين يديها كما تحمل ماءها