بل فِدُوا (١) إليها وأعرضوا عمّا قال الشاعر. فِدُوا إليها وأقبلوا عليها، فقد قامت الدار وعاد الديّار.
ما ماتت بغداد؛ إن بغداد لا تموت. السنديانة الضخمة قد تُقطَع وتُنشَر بالمنشار ولكن جذورها في الأرض، فلا تلبث أن يخرج من جذعها اليابس فرع طريّ يصير غصناً لدناً، ثم يغدو جذعاً قوياً كالجذع الذي انقطع تقوم عليه دوحة باسقة كالتي كانت من قبل.
* * *
إنني لا أزال في الكلام على بغداد الماضي، ما تكلمت عن بغداد الحاضر. ولكن هل بغداد التي ذهبتُ إليها وجئت الآن أكتب عنها هي بغداد الحاضر؟ لقد مرّ على ذهابي إلى بغداد نحوٌ من نصف قرن. إن بغداد التي عرفتها صارت أيضاً من التاريخ، ولكن تلك من التاريخ البعيد وهذه من التاريخ القريب. إن مدننا ومجتمعاتنا تعدو عدواً في طريق هذه الحضارة المادّية، فما يكون اليوم جديداً يكون غداً قديماً.
إن بغداد التي عرفتها ما كان فيها إلاّ شارع واحد تمشي فيه السيارات والعربات صفاً متصلاً، لا تستطيع أن تقف فيه لأنه ضيّق وإذا وقفَت فيه سدّته، ولا تستطيع أن تخرج منه لأنها إن خرجت منه لم تقدر أن ترجع إليه.