للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هل أضرب مثلاً واقعاً أم أخاف أن أؤذي به أحداً؟ على أن الذي يؤذيه الحقّ أَولى به هو أن يرجع إليه، لا أن نترك نحن كلمة الحقّ حفاظاً عليه. على أنني لا أسمّي أحداً ولا أعيّن بلداً. كان لي حفيد تكرّموا عليه فأدخلوه مدرسة مشهورة، لكنْ اتفق أن بدّلوا معلّميها وجاؤوا بغيرهم فكان معلّمه شاباً مبتدئاً لم يحذق صنعته، ولم تصقل الأيام خشونته ولم تُهذّب حواشيه، فمضت السنة ولم يتعلّم (أي الحفيد) تهجئة الكلمات. وحسبت ذلك ضعفاً منه، فجاءت نتيجة الامتحان فإذا هو يُعطى درجة جيّد جداً. وارتقى إلى الصف الثاني فالثالث فالرابع وهو لم يتجاوز الحدّ الذي وقف عنده على عهد المعلّم الأول! وحفيد آخر في مدرسة أخرى ابتُلي بمعلم قاسي القلب فارغ الرأس، يستر فراغ رأسه وضعفه في مهنته بشدّته وقسوته، فهو يُدخِل القلم بين أصابع الولد مخالفاً بينها ثم يضربه عليه ضرب مجرم مكانه السجن، لا معلّم محلّه منبر التدريس.

إنني أقول الآن: يا أسفي على أيامي الأولى في التعليم الابتدائي التي ضقت بها لمّا كنت أعيشها، ثم عرفت قدر عملي فيها لمّا فارقتها. كان أسلوب التعليم على أيام الفرنسيين أن يتسلّم المعلم فصلاً كاملاً بكلّ دروسه، وكنت آخذ إحدى شعبتَي السنة الثالثة، والشعبة الثانية يتولاّها الصديق الأديب الشاعر سليم الزركلي مدّ الله في عمره. فنشأ من هؤلاء التلاميذ الصغار مَن نبغ وبقي حبلي متصلاً بحبله وشَمْلي مجموعاً إلى شمله إلى الآن، لأن أعمق الآثار في حياة التلميذ أثرُ معلّم الابتدائي.

<<  <  ج: ص:  >  >>