للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قرأنا وتحدّثنا لنقطع الصحراء بحديثنا وقراءتنا، فقطعَت الصحراءُ بصمتها وجلالها حديثَنا. وكنّا ننام ونفيق والصحراء هي هي، ونأكل حتى نشبع ثم نجوع فنأكل والصحراء هي هي، حتى قطعنا يوماً وليلة وكان صباح اليوم التالي.

وللصباح في البادية جمال وروعة لا يكون مثلهما في المدن. وبدّدَت الشمسُ ظلمةَ الليل فتبدّدَت من نفسي ظلمة الكآبة والحزن وانزاحت عني نوبة المرض. وهل العاطفة الرقيقة إلاّ مرض في الرجال؟ فصحوت ونظرت في أمري فإذا أنا لم أغترب ولم أُفارق بلدي.

وهل بغداد التي أقصدها إلاّ داري وبلدي وفيها أهلي وإخوتي؟ إن لم تقرّر هذه الأخوّةَ الأنظمةُ والقوانينُ ولم تُسجَّل في الدساتير فلقد قرّرها الله وسجّلها في كتابه: {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ}. فإن فرّقَت بيننا شارات على الأرض وألوان على المصوَّر فقد جمع بيننا الدين (وكفى به جامعاً) واللغة والعادات، وألّف بيننا تاريخ الماضي الطويل وأمل المستقبل الضخم وألم الحاضر العميق، ووحّد بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة.

فأنّى نُنكر هذه الأُخوّة وشاهدها فينا ودمها في عروقنا؟ وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مئة صورة وفي ذاكرتي عنها ما لا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار؟ وبغداد كانت يوماً عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأُمّ الدنيا ومنزل المنصور والرشيد والمأمون:

<<  <  ج: ص:  >  >>