للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والناس مزدحمون على المقاعد أو هم وقوف، يمنعهم أن يقعدوا معه. ذلك أنه يجعل جسده كله يختلج فجأة وتصطكّ أسنانه، ويُخرِج من حلقه أصواتاً مبهَمة عجيبة وتهتزّ أطرافه، ويجيء ذلك كله في لحظة واحدة، يعود بعدها ساكناً كما كان قبلها ساكناً، فيحسبه الناس مجنوناً أو مصروعاً فيبتعدون عنه، وبذلك يخلو له المكان!

وكان عندنا مدرّس إنكليزي أذكر أن اسمه ماكدونالد، وإذا كان في الإنكليز برودة كما يُقال فهذا أبرد الإنكليز؛ ما عرفت ولا سمعت بأبرد منه. لا يكلّم أحداً ولا يسلّم على أحد ولا يردّ السلام على أحد. وكانت تأتي بين الدروس أحياناً ساعات ليس للمدرّس فيها عمل، فينتظر الساعة التي بعدها ليلقي درسه. فاتفق أن هذا المدرّس الفلسطيني اجتمع في ساعة فراغ بماكدونالد، ولم يكن في غرفة المدرّسين من المدرّسين الأربعين غيرهما، فقال له صاحبنا: «غود مورنينغ»، فما ردّ. فسكت قليلاً ثم كلّمه، فما أجاب. فأخذ صاحبنا جريدة فجعل يقرؤها أو يتظاهر بقراءتها، ثم جاء بحركته تلك، ففزع الإنكليزي وابتعد عنه وقعد يسترق النظر إليه، فرآه قد عاد ساكناً كما كان، فتعجّب منه. ثم جاء بها المرّة الثانية فلم يعُد الإنكليزي يستطيع البقاء، وخرج من الغرفة فذهب إلى المدير.

وكان المدير رجلاً عربياً بغدادياً طيّباً سليم الفطرة لا يعرف من الإنكليزية شيئاً، وكانت غرفته مستطيلة يصعد إليها بدرجات قصار ولها شرفة واسعة تطلّ على ساحة المدرسة. فلما دخل

<<  <  ج: ص:  >  >>