عليه يكلّمه بالإنكليزية ما فهم عنه، فلما أطال المقال وجعل يشير بيديه استدعى المدير الفرّاش وقال له: اذهب فأتِني بمدرّس إنكليزي ليفهم ما يقوله هذا. فذهب فلم يجد إلاّ صاحبنا المدرّس الفلسطيني، فجاء به، فلما رآه الإنكليزي داخلاً من الباب أراد الهروب فلم يجد مهرباً إلاّ من الشبّاك، فوثب منه إلى باحة المدرسة! وعجب المدير وسأل: ما شأنه؟ فقال له المدرّس الفلسطيني (واسمه الأستاذ علي العوري): إنه مجنون. فأيقن المدير بجنونه فكتب يطلب نقله، وتدخّلَت السفارة البريطانية في بغداد، وكانت مشكلة.
وشهدنا في تلك السنة بعد وصولنا بنحو شهر واحد انقلاب الجنرال بكر صدقي على ياسين باشا الهاشمي، وكان أول انقلاب عسكري في بلاد العرب في هذا القرن.
وكانت لياسين الهاشمي منزلة في نفوسنا منذ الصغر؛ ذلك أننا كنّا نحو سنة ١٩١٩ تلاميذ في المدرسة السلطانية الثانية في دمشق، وكانت أيام مهرجانات متّصلة ومظاهرات وأناشيد، فإذا نحن نُدعى يوماً إلى مظاهرة ليست كالمظاهرات، مظاهرة مشى فيها نصف أهل دمشق وكان يقود كلَّ جماعة رجلٌ ينادي: من تريدون؟ فكنّا نردّ بصوت واحد: نريد ياسين باشا. ولم أعرف يومئذ مَن هو ياسين باشا وما قصّته، ولكني سِرت مع السائرين وهتفت مع الهاتفين. وفهمت بعد ذلك أن ياسين باشا الهاشمي وقف في وجه الإنكليز، فاختطفوه في ليلة ما فيها قمر وأخذوه إلى حيث لا يدري أحد. فاستقرّ في نفسي أنه عظيم، ولما كبرت وعقلت لم أجد دافعاً للتحقّق من هذه العظمة ولم أتبيّن بالبحث