للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكنت قد بلغت منزلي في الأعظمية، فصعدت السطح فانحسرَت أمامي صفحة النهر وهو يلتوي ويلفّ من حول الأعظمية كالأفعى، يطيف بها كالقضاء النازل، وقد استرخى عند المنحنى وتمدّد على الحقول والدور التي هجرها أهلوها وفرّوا منها، فصار عرضه أكثر من ألفَي متر ... وصار بحراً خِضَمّاً، ولكنه يركض دفّاعاً يحمل في يديه الموت والغرق والخراب. وكانت حُمرة الشفق تخالط الماء فيلتهب ويبدو كأنه أتون مستعر، أو كأنه جهنّم الحمراء، نعوذ بالله من جهنّم.

وبسط الليل ثوبه الأسود على الدنيا فأخفى تحته ثمانية وأربعين ألف شابّ (كما جاء في الإحصاء بعد ذلك) يشتغلون لينقذوا بغداد من الخطر المحقّق، ومن ورائهم أربعمئة ألف قلب تحوطهم بالرعاية والحبّ.

واستمرّ الصراع، وكان الناس من الفزع والذعر كأنهم في يوم القيامة، غير أن المرء يوم القيامة يجد ما يشغله عن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، وهنا أم حائرة مولهة قد ضاع منها ولدها في وسط الزحمة فهي تعدو وتصيح من غير وعي، لا تدري: أهو من الأحياء أم افترسه هذا النمر الجبّار؟ وهنا بنت تفتّش عن أمها، وولد ينادي أخاه، وأسرة قد هيّأت متاعها ووقفَت على باب الدار تنتظر الساعة الرهيبة التي يطغى فيها الماء فيدكّ دارها وما فيها ويدعها فقيرة مسكينة مسكنها الشارع، وشباب عصفَت النخوة برؤوسهم فهم يتسابقون إلى الخطر. والتلاميذ قد دفعتهم الحميّة فأقبلوا يبتدرون الموت، والجنود يعملون في كلّ مكان بهِمَم الأسود.

<<  <  ج: ص:  >  >>