للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على السهول الممرعة والصحارى المجدبة، قد تعب من سيره الطويل المضني فجاء يستريح على هذه الحقول التي زخرفها الربيع وأزهر فيها النبات، وفتّح الورد والقرنفل والفُلّ وأترع نسيمَها العطر، ليحيل ذلك كله إلى صحراء قاحلة. جاء يغرس في هذه الحياة الرخيّة السعيدة بذورَ اليُتْم والفقر والنكد.

ولكن الذنب علينا. لو أنّا أنشأنا له مأوى يستريح فيه وسريراً ينام عليه لهجع فيه إلى أيام الصيف، ثم لخرج بالبَرَكة واليُمْن إلى أراضينا وبلادنا.

* * *

تركت الدار وخرجت أسبح في هذا الخضمّ من الناس، أُدافع لأصل إلى الشاطئ لعلّي أعمل عملاً. ولم أكُن أدري ماذا أعمل، ولست أُحسن السباحة ولست أعلم ما الفائدة من ذهابي، ولكني لم أفكّر في شيء من ذلك لأن الإنسان لا يفكّر في ساعة الخطر، وإنما يعمل.

فلما وقفت على الصدع هالني وأرعبني أن النمر قد أفلت من القفص، وخرج يعدو مجنوناً مستطار اللبّ كاشراً عن أنيابه، يزمجر ويزأر ويبرق ويرعد. إن الماء يندفع بمثل قوّة الديناميت ثم ينزل على الحقول فيمضي مكتسحاً في طريقه كلّ شيء: رأيت الأشجار الضخمة يقتلعها الماء ويقذف بها كأنما هي عيدان الكبريت، رأيت البيوت ينسفها كأنما هي علب من الورق، رأيته يتدفّق من كلّ جهة وقد ابتلع صوتُه المدوّي كلَّ ضجّة. وكان لمنظره في ظلمة الليل صورة لا توصف.

<<  <  ج: ص:  >  >>