للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قطرة في كأس ولا خاضعاً لأهواء الناس.

وأعلاها: أن يُفيض الشاعر الحياة على الطبيعة؛ فتحسّ وتشعر كما يحسّ الأحياء ويشعرون، وتفرح وتتألّم، وتفكّر وتَعتبر. وفي ذلك لمحات كثيرة جاءت في الشعر العربي، منها مقال البحتري في وصف البِرْكة (بركة المتوكّل):

ما بالُ دجلةَ كالغَيْرى تنافسُها ... في الحسنِ طَوراً، وأطواراً تباهيها؟

فجعلها تغار وتُباهي كما يصنع الأحياء من الناس. وأكملُ مثال على هذا أعرفه في الأدب العربي قصيدة «الجبل» لابن خفاجة الأندلسي: الجبل الشيخ الوقور الذي كوّر عمامته وكبّرها وقعد على ظهر الفلاة يفكّر في عواقب الأمور، ويقول إنه كان ملجأ للعابد الأوّاب وللجاني الهارب ومَن أضاعوا العمر في غفلة، تشغلهم متعة المنظر عن غاية السفر وألوان الممرّ عن أمان المستقرّ، ثم يمضي هؤلاء وأولئك ويبقى الجبل وحده يفكّر في أحوالهم ويسأل عن مآلهم. قال:

وأرعنَ طمّاحِ الذُّؤابةِ باذخٍ ... يُطاوِلُ أَعْنانَ السّماءِ بغاربِ

وَقورٍ على ظهرِ الفلاةِ كأنه ... طَوالَ الليالي مُفكّرٌ في العَواقبِ

يلوثُ عليه الغيمُ سُودَ عمائمٍ ... لها من وَميضِ البرقِ حُمرُ ذَوائبِ

وقالَ: ألا كم كنتُ ملجأَ قاتلٍ ... وموطِنَ أوّابٍ تَبتّلَ تائبِ!

وكم مرَّ بي من مُدْلجٍ ومُؤَوّبٍ ... وقالَ بظلّي مِن مَطيٍّ وراكبِ

فما كانَ إلاّ أن طوَتْهم يدُ الرّدى ... وطارَت بهم ريحُ النّوى والنّوائبِ

فحتّى متى أبقى ويَظعَنُ صاحبٌ ... أُودّعُ منهُ راحِلاً غيرَ آيِبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>