للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كنت أنا وأنور نمشي كل يوم، أحياناً نكون وحدنا وأحياناً يكون معنا من يرغب في مرافقتنا، نمشي على الأقدام نجول في بغداد، أو نركب العربة (العربانة) إلى أرباضها وضواحيها. ذهبنا نمشي مرّة على أقدامنا من الأعظمية حيث كنّا نسكن إلى بغداد، تركنا الجادة ومشينا على الشطّ بين المزارع والحقول، فإن انسدّ الطريق أمامنا بسياج بين مزرعتين أو جدار قصير يفصل بين حقلين ابتعدنا عنه ثم عدنا إليه.

وكنّا نتحدّث ونتذكّر. وذكرياتنا غالباً واحدة لأننا عشنا معاً عمراً، مَن أراد أن يطّلع على طرف منه فليقرأ مقدّمتي لديوانه «ظلال الأيام». فدخلنا حِمى البلاط، بلاط الملك غازي، وكان ممنوعاً دخوله. ولكنّا لم نحسّ أننا دخلناه، فما راعنا إلاّ الجندي الخفير يعترضنا وبندقيته مسدَّدة إلينا وسِنانها في صدورنا. فماذا كان بعد ذلك؟

لا أدري. أقول لكم الحقّ: إنني لا أدري!

لا، ما نسيت ولا أطار الفزع لبّي حتى ما أذكر ما حدث لي، بل لأننا جعلنا من هذه الواقعة قصّة أدبية، أو نكتة، أسردها أنا من خيالي لا من ذاكرتي فأُزيّنها وأزيد فيها، فيأخذ هو الوصف الذي انتهيت إليه فيصنع فيه مثل الذي صنعته أنا. ولا نزال نُبدئ فيها ونُعيد وهي تكبر وتزيد، حتى لم أعُد أعرف حقيقة الذي كان. ولكن أسرد عليكم إن شئتم الطبعة الأخيرة من هذه القصّة (١).


(١) القصة في مقالة «من ذكريات بغداد» في كتاب «بغداد»، ص٨٢ من طبعة دار المنارة الجديدة (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>