خمس جلدات ليست شيئاً يُذكَر، ولكن الشيء الذي يُذكَر ويُنكَر ولا يُنسى (بدليل أني ما نسيته وقد مرّ عليه نحو نصف قرن) هو الطريقة التي نُفّذ بها الجَلد. طريقة أغمضت عينَيّ فلم أستطع مشاهدتها، بل لم أستطع أن أمسك لساني عن نقدها، وإن لم يسمع ما قلته إلاّ من كان حولي.
لقد أوقفوا الطالب أمام هذه الخشبة، وجهه إليها، وقيدوا يديه بسيور من الجلد مثبّتة فيها، وحلّوا زناره وأنزلوا بنطاله وما تحت البنطال، حتّى كشفوا إليتيه أمام الحاضرين جميعاً، ووضعوا عليهما خرقة قالوا إنها معقمة مبلّلة بمحلول برمنغنات، ثم جلدوه فوقها.
ولم يكن الجَلْد مؤلماً، ولكن المؤلم كشف عورته وفضيحته، حتّى إنه انقطع عن المدرسة فلم أرَه من بعدُ فيها، فكان في هذه الجلدات الخمس القضاء عليه وقتله نفسياً.
* * *
أمّا ما كان في ذلك اليوم فإني أقرأ وصفه الذي كتبتُه أنا في «الرسالة»(عدد الرابع من ربيع الأول سنة ١٣٥٨)، فوالله لولا أني رأيته بعيني وأني عشت فيه، وأني كتبته ونشرته، لشككت بصدقه، بل لحكمت بكذبه.
شيء عجيب لا يكاد يُصدَّق. إنها قد تُفجَع أسرة بعزيز لها مات فيكسو أفرادها كلهم لباس الحزن وتبكي عيونهم جميعاً من هول المصاب، أما أن تفقد مدينة كبيرة مثل بغداد رجلاً، فيبكيه رجالها ونساؤها جميعاً، ويستخفّ الحزن فيهم