كهولاً يقطر من أردانهم الوقار وشباباً صلداً يقحمون ضَرَم النار ويركبون الأخطار، ويُغشى على طلاّب يرفعون من قوّتهم الأثقال ويستهينون بالأهوال، وطالبات لهنّ مع طُهر الجمال مثل عزائم الرجال، وعجائز رأين من الأهوال والمصائب الثقال ما لا ينال منهن بعده تحوّل الأحوال ... فهذا هو العجب، وهذا ما كان.
حسبت ما رأيت -بادي الرأي- تصنّعاً وظننته تمثيلاً، فاشمأزّت نفسي منه، ثم لمّا توالت المشاهد وتعاقبَت، وأبصرت طرق البلد وأزقّتها (أي درابينها كما يقولون) تتلاحق فيها المواكب كلها يحمل صورة الملك الشابّ القتيل، ابن الستّ والعشرين سنة، ويبكي، ويتقدّم كلَّ موكب عريفٌ منهم يقول شعراً عامّياً، لكنه يسمو بصدقه أحياناً حتّى ليعلو على كلّ شعر بليغ. وليتني حفظت هذه الأشعار ... منها موكب كان يقول عريفه ويردّد الناس بعده:
وسفرت وجوه ما حسرت عنها يوماً جدرانُ بيوتأهليها، ولُطمت خدود ما طمعَت بلمسها شفاه عاشقيها، وبرزت للناس مخدَّرات ما أبصرَتها إلاّ عيون أرحامهاوذويها. ولاتعجبوا، فهذه عادة الجاهلية رجع بها الحزن إلى مجتمع إسلامي أبطل الإسلامُ فيه عادات الجاهلية. ألا تذكرون ما قال الشاعر العبسي: