ويسطع كما يسطع نجم الأمل، وإذا موسيقاه القوية تدوّي في الآذان فيكون لها أثر في النفوس أحلى من نداء الحبيبة في نفس المحبّ المَشوق.
فحبس الناس الكلمات ووقفوا الأنفاس، يتطلّعون ويترقّبون، والموسيقى تعلو والفتيان يتقدّمون حتّى وصلَت طليعتهم. فما استطاع ذو شعور إمساك دموع الفرحة والرقّة والتأثر أن تسيل، وارتجّت الأرض بالتصفيق والهتاف كما ارتجّت من قبل بهذه الموسيقى القوية المحبوبة وهذا النشيد، الذي يُسمَع من خلاله صوت المستقبل البارع وتلوح في أثنائه خيالات الماضي العظيم.
وكان الفتيان أطهاراً مثل الزهر اليانع لدناً كأغصان الروض، ولكنهم كانوا أقوياء كدَوْح الغاب أشدّاء كأسود العرين، وكانوا يسيرون صفوفاً متعاقبة على عرض الشارع، مرفوعة رؤوسهم منتصبة قاماتهم موزونة خُطاهم، على أكتافهم بنادقهم وعدّة قتالهم.
ما أحسست بالعجز مرّة عن الوصف كما أحسست بالعجز عن وصف ما رأيت ذلك اليوم. ومَنذا الذي يقدر على وصف هذا الشيخ الكبير العجوز ذي الشيبة السائلة على صدره، وهو يلحظ حفيده الصغير يحمل البندقية ويمشي مختالاً مزهوّاً يحلم بأمجاد المستقبل ويذكر ما درس من أمجاد الماضي، فلا يطيق هذا الشيخ منع الدموع أن تسيل من عينيه وتنحدر على لحيته البيضاء؟ إني لأسمعه يحمد الله على أن صار لبلاده جيش من أبنائها، ولم يكن يرى إلاّ جيشاً واغلاً دخيلاً من غير أبناء البلد.