للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ذا الذي يقدر على وصف هذه الأم التي أمسكت بيد طفلَيها الصغيرين وهما يتوثّبان ليلحقا بالموكب ليبصرا أخاهما الذي يمشي فيه، وطفقَت تدعو الله دعاء هامساً مخلصاً يتصعّد من خلال الزفرات أن يحفظ لها ابنها وأن يحفظ للبلد بنيه كلهم: "يا رب سلّم، ما شاء الله كان، يا ربّ سلّم" ... وتبكي؟

من ذا الذي يقدر أن يصف شارع الرشيد في ذلك اليوم؟

يا أيها الرشيد: قُم ترَ المجد الذي بنيته لا يزال قائماً، قُم ترَ الأحفاد قد نهضوا يسلكون طريق الأجداد، قم ترَنا لم نُضِع الأمانة ولم نُهلِك التراث، قُم ترَ مجد غازي يتّصل بمجدك كما اتصل الشارع بالشارع (أعني شارع الرشيد بشارع غازي فعادا مَهْيَعاً واحداً، وكان هذا الموكب قبل مقتل غازي).

وعدت مرّة ثانية ففكرت في بلدي وأهلي، عدت فجأة. نحن هنا في فرحة والنارُ مشتعلة في فلسطين، والنار توشك أن تلتهب في الشام! أيّ مصيبة لم يرَها الشاميون من المستعمرين وأي خَطب لم ينزل بهم؟ أَمَا خرّب الأقوياء بلادهم ضرباً بالمدافع وقصفاً بالحديد وحرقاً باللهب، حتّى غدا ثلث دمشق خرائب وأنقاضاً من فعل المتمدّنين الذين انتدبَتهم جمعية الأمم ليمدّنونا وليعلّمونا كيف تكون الحضارة ويكون التقدم؟ أما أخذوا ذهبنا وأبدلونا به ورقاً أقفرَت به الخزائن وافتقر به ذوو الغِنى واليسار؟ أما قطّعوا البلاد حكومات وجعلوا من القرى دولات، وقسّموا الناس بَدداً ليجعلوهم طرائق قِدَداً؟ أما صبرنا على هذا كله؟ بلى، لقد صبرنا حتّى لم يبقَ في قوس الصبر منزع، واحتملنا ما لا

<<  <  ج: ص:  >  >>