المدرّسين وباشروا أعمالهم، وأنا قاعد عنده في غرفة الإدارة لا يكلّفني بعمل، وكلّما سألته: لماذا لا أقوم بعملي؟ كان يستمهلني ويجيئني بشتّى المعاذير ليصرفني عن دخول الصف.
ثم علمت السبب؛ عرفت أن كل المدرّسين الذين جاؤوا قبلي لتدريس اللغة العربية كان الطلاّب الأكراد يقومون عليهم فلا يسلمون من ضربهم وإيذائهم. والطلاّب هناك ذَوُو بسطة في الأجسام وذَوُو قوّة، ولم يكونوا يعرفون هذه العصبية القومية ولم نكن نعرفها نحن. كنّا لا نعرف إلاّ أخوّة الإسلام، فقام الترك الاتحاديون أولاً فقالوا: تُرك، فقمنا نحن رداً عليهم فقلنا: عرب، فقام الأكراد فقالوا: كُرد ... ودعا كل شعب من شعوب المسلمين إلى جاهليته الأولى فصارت الأمة الواحدة مجموعة أمم.
عرفت السبب وعلمت أنه إنما يحول بيني وبين التدريس خوفاً عليّ ممّا يتصوّر أنه يمكن أن يقع لي، فاغتنمت غفلة منه ودخلت أكبر الفصول، واخترقت مقاعد الطلاّب حتّى صعدت منبر التدريس. نظرت في وجوههم فإذا عيونهم محمرّة وإذا الغضب يبدو على سماتهم، وإذا هم يُضمِرون نية لا يستطيعون أن يُخفوا مظاهرها. فقلت لهم: اسمعوا الذي أقوله لكم يا أبنائي. كان العرب في جاهلية فبعث الله لهم محمداً عليه الصلاة والسلام ليدعوهم إلى الله، ليدلّهم على طريق الجنّة، ليأخذ بأيديهم إلى صعود مدارج الفلاح والنجاح، وأنزل الله عليه قرآناً يقول له فيه:{إنّما المؤمنونَ إخوةٌ}. فأنا ما جئت من بغداد إليكم لأعلّمكم العربية من أجل أهل بغداد ولا خدمة لهذه البدعة التي سَمّوها قومية.