ووقعَت لي حوادث أخرى مشابهة لهذه دلّتني على أن المسلم يبقى مسلماً، وأن هذه الدعوات وهذه المذاهب طلاء خارجي لا يلبث أن يُمحى ولا يمكن أن يثبت وأن يقاوم العقيدة. فالعقائد لا تقاوَم أبداً.
* * *
ولمّا نُقلت من بغداد كتبت مقالة أودّع فيها بغداد قلت فيها (١):
الوداع يا بغداد.
يا بلد المنصور والرشيد، والنعمان وأحمد، والكرخي والجنيد، وأبي نواس والعبّاس، ومخارق ومطيع وحماد. يا منزل القُوّاد والخلفاء، والمحدّثين والفقهاء، والزهّاد والأتقياء، والمغنّين والشعراء، والمُجّان والظرفاء. يا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول ... يا دنيا فيها من كل شيء، يا بلداً أحببته قبل أن أراه وأحببته بعدما رأيته.
لقد عشت فيك زماناً مرّ كحلم النائم، صحوت منه على صوت الداعي يؤذّن بالفراق، فلم أجد منه في يدي إلاّ لذع الذكرى. وهل تخلف الأحلام -يا بلدُ- إلاّ الأسى والآلام؟
ودّعتها والسيارة تسرع بي إلى المحطّة، تسلك إليها شوارع ذات بهجة وجمال. وعاينت الوداع فأيقنت أني مفارق بغداد عمّا قليل، وأني سأتلفّت فلا أرى رياضها ولا أرباضها ولا أبصر
(١) انظر مقالة «وداع بغداد» في كتاب «بغداد» (مجاهد).