دجلتها ولا نخيلها، فجرى لساني بقول الأول، وإن من الأقوال ما لا تبلى جدته ولا يمضي زمانه:
أقولُ لصاحبي والعِيسُ تهوي ... بنا بينَ المُنيفةِ فالضِّمارِ
تمتّعْ من شَميمِ عَرارِ نجدٍ ... فما بعدَ العَشيّةِ من عَرارِ
وجعلت أذكرُ كَم ودّعت من أحباب، وكم فارقت من منازل، وكم قطّعت قلبي قطعاً نثرتها في أرض الله الواسعة التي لا تحفظ ذكرى ولا ترثي لبائس. ورأيتني لا أكاد أستقرّ في بلد حتّى تطرحني النوى في آخر، كنَبْتة لا تكاد ترسخ في تربة وتمدّ فيها جذورها حتّى تُقلع وتُنقل إلى تربة أخرى.
ورأيت أني دخلت بغداد يوم لم يكن قد جاءها أحدٌ من أصحابي، فعشت فيها وحيداً مستوحشاً لا أعرف منها إلاّ المسجد (وما كان لمسلم أن يرى نفسه غريباً في بلد فيه مسجد، ولكنها العاطفة الضعيفة المتهافتة) فلما ألفتها وصارت بلدي وغدا لها في قلبي مكان نُفيت عنها:
دخلنا كارهينَ لها فلما ... ألِفْناها خَرجنا مُكرَهينا
وفكّرت في أمري: متى أُلقي رحلي ومتى أحلّ حقائبي، وهل كُتب عليّ أن أطوف أبداً في البلاد وأعيش غريباً وحيداً بعيداً عن أهلي وكتبي وصحبي؟
(إلى أن قلت فيها والمقالة طويلة): بغداد يا مهد الحبّ، وُلد الحب على جسرك الذي تحرسه العيون، وينمو في زوارقك ذوات الأجنحة البيض التي تخفق كخفَقان قلوب راكبيها، ويشبّ