للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في كرخك وتحت ظلال نخيلك. فتشوا كم تحت هذا الثرى، ثرى بغداد، من بقايا القلوب التي حطّمها بسهام العيون هذا المخلوق الجبّار الذي وُلد على الجسر شاباً، ونما في الزورق، واكتهل في الكرخ والرصافة، ثم لم يَمُت لأنه من أبناء الخلود.

سلوا أرض بغداد: أعندها خبر من شهداء الغرام؟ سلوا جوّ بغداد: أين النغمات العِذاب التي عطّرت نسيمه فهزّت قلوباً وهاجت عواطف، وأضحَكت وأبكت وأماتت وأحيَت؟ هل أضعت هذه الثروة التي لا تُعوّض؟ سلوا الجسر ... يا جسر بغداد، إن ما بقي من حديثك قد ملأ كتب الأدب حتّى لم يعرف الناس سوقاً للعواطف والأفكار والعِبَر أكبر من جسر بغداد، فأين سائر أخبارك؟

كم تركت حبيباً ينتظر فلا يرجع بعد الانتظار إلاّ بالخيبة والأسى؟ وكم عطفت على بائس منكوب وأعرضت عن منكود بائس، فأريت الأول من مشاهد الحياة ما هوّن عليه ما هو فيه وزدت الثاني بؤساً ونكداً! وكم وعيت من أسرار الحب والبغض، والفرح والحزن، والغِنى والفقر، والعزّة والذلّ، وكم رأيت من حصاد الأدمغة وثمرات العقول! كم اهتززت تحت أقدام خليفة كانت تُصغي له الدنيا إذا قال لأنه ينطق بلسان محمد ‘، وقائد كانت تخضع له الأمم إذا سار لأنه يلوّح بسيف محمد ‘ (إلى آخر ما قلت).

وتلفّتّ ورائي فإذا بغداد قد اختفت وراء الأفق، وغابت مسارب الأعظمية التي تحاذي النهر، تتكشف عنه تارة فتضيء ثم

<<  <  ج: ص:  >  >>