للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللبّ منهم، وخرجوا من بيوتهم يتراكضون وما لأحدهم وجهة ولا مقصد.

ثم انجلَت الحال، فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها، ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند جسر تورا فيها ثلاث أسر، في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص، فأبادت الجميع. وما ثمة مطار ولا ثكنة ولا شيء ممّا يصحّ أن يكون لقنابل الطائرات هدفاً عسكرياً. وألقت الثانية نارها على باب السلامة، من أسفل الجزيرة، فهدمت أربع عشرة داراً (لا شقّة) من تلك الدور العربية المتداخلة المبنيّة باللبِن والطين التي يسكنها الضعفاء الفقراء. والثالثة وقعت على الكلاّسة فأبادت الحيّ كله، ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار إلى الجنوب لطارت بمئذنة العروس، ولو انحرفت عشرة أمتار إلى الشمال لذهبَت بقبر صلاح الدين. ورُميت الأخيرة في الحيّ الجديد في «سيدي عامود»، الذي لم يكَد يُبنى بعد أن خرّبه الفرنسيون أيام الثورة الكبرى حتّى حمل إليه الدمارَ في الثانية مَن حمله إليه في الأولى.

وما في كل ما دمّرَت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شيء من المصانع أو المواقع العسكرية البتّة.

وقع ذلك كله في أقلّ من خمسين ثانية، لم يمتدّ إلاّ ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها، ثم توارت في الظلام كما خرجَت من الظلام، كما يفعل اللصوص في كل آن وكلّ مكان.

أسرعتُ مع مَن أسرع إلى مطرح القنابل، وبدأت من

<<  <  ج: ص:  >  >>