والرجال ... لم يكن الرجال يومئذ بأجلد من النساء. وكيف يتجلّد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض، وكلّما مرّت لحظة دنا منه الموت شهراً؟ كيف يصبر وهو يظنّ أن في يده حياة حبيبه المدفون حياً تحت الثرى، ويتصوّر كيف يعيش من بعده إذا توهّم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن إسعافه؟
إن الذي رأيت في الكلاسة يومئذ من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم. والحفّارون خلال ذلك يُخرِجون جثّة من هنا وجثّة من هناك، فينادون عليها ليعرفها أهلوها. ولقد وجدوا جثثاً مشوَّهة لم يُعرف أصحابها، ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يُدرَ من صاحبه. وهذه امرأة حديثها عجب من العجب: فقد كانت تنام بين ولدَيها، فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عِرق منها يرتجف كأنما مسّته الكهرباء، فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً، فمدّت يدها تتلمّس ولدَيها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الآخر، فتحسّست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب سقط من السقف وسط تراب منهار، فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشيء قريب حسبته السقف، فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم، فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدَته. وكان ينتهي إلى سمعها صدى طرقات بعيدة كأنها آتية من قرارة سبع آبار، ثم رأت حين ألِفت عيناها الظلمة كأنما هي في مغارة لا باب لها ولا كوّة، ثم إنها من ضيقها كالقفص، فأقبلَت تضرب بيديها ورأسها والتراب يتساقط عليها حتّى وجدت بصيصاً من النور، وازداد صوت الطّرْق وضوحاً في أذنيها وتسرّب إليها الهواء بعد أن كادت تختنق، فأُغمي عليها