ولم تُفِق إلا في المستشفى ورضيعها إلى جنبها، أمّا ولدها الآخر وزوجها فبقيا تحت الأنقاض ... لقد ماتا.
وهذا هو الأستاذ المصور أكرم يفتّش عن ولده الحبيب، وقد جحظَت عيناه من الذعر وتبدّلَت حاله وشحب لون خدّيه فصار كقشرة الليمون، وهو يستحثّ الحفّارين ويضرب بيديه التراب. هنا ابنه، ولده الحبيب يا أيها الآباء ... جاء به من المهاجرين يوم الروع ليُودِعه المكان الآمن عند جدار المسجد، عند قبر صلاح الدين. وما يفيده صلاح الدين بعد موته، ولا ينفع ميتٌ حياً ولا يضرّه. ومرّت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور، ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حيّ.
يا أيها القراء، أمسكوا قلوبكم لأن المشهد الذي رأيته بعيني وسأصفه لكم يمزّق القلوب: رأى الولد قد سقطت قطعة من إسمنت الجدار على يده فبقيت يده تحتها إلى قريب من الكتف، وهو يصرخ: أبي ارفعني، ارفعني يا أبي ... فلما سمع الأب صوته هُرع إليه يعانقه وهو يبكي، وكل عين تبكي، لكن كيف يرفعه وفوق ذراعه هذا الثقل كله؟ وأقبلوا يحاولون رفع هذه القطعة، وينقلون التراب الذي سقط معها، والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكّر بإنقاذه ولو بقطع يده! أسمعتم؟ يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده! وإنهم لفي ذلك وإذا بقطعة أخرى تهوي على رأس الصبي فتقتله حالاً.
وها هنا طفل رضيع يجدونه حياً، يمتصّ من ثدي أمه الميتة، حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال.