ولمّا انصرفتُ من الكلاسة أخذ بيدي صديق لي وأنا لا أبصر من الأسى والحزن طريقي فقال: إن ما رأيت ليس بشيء. إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحيّة وأروع مشهد فتعالَ معي إلى باب السلام، فلقد أُخرجَ منه إلى الآن سبعة وعشرون قتيلاً. فنَتَرْتُ يدي منه وقلت: حسبي ما رأيت! ومضيت وأنا لا أرى ما حولي من الدموع في عيني.
وانجلَت الغارة عن ثمانية وعشرين منزلاً أضحت خرائب وتلالاً، وواحد وسبعين قتيلاً ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال، ونحو من خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد. ما قُتل هؤلاء في المعركة الحمراء، ولا سالت نفوسهم على ظُبى الأسنّة وشفرات السيوف. ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها، ولكنه أتاهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في دورهم، فأخذ الرجلَ من جنب زوجته وولده أو قتلهم جميعاً، لم يتورّع عن قتل النساء ولا عن ذبح الذراري. لم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي، ولكنه مرّ في الظلام الحالك مرور اللصّ الجبان، فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الأبطال -لأنه ليس من أكفائهم- وتخيّر هذه البقعة الآمنة حول بيت الله، فصبّ عليها كلّ ما في النفوس الشريرة من خِسّة ودناءة (١).
* * *
(١) من أول هذه الحلقة إلى هنا منقول بتصرف يسير عن مقالة «كارثة دمشق» التي نُشرت في تلك السنة، ١٩٤١، وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).