ثم سمعنا أنه كان من بعدُ ما هو أشدّ من ذلك وأدهى، حين لبس رجال دولة الحضارة والعلم (التي جاءت اليوم تحمي الديمقراطية -كما تقول- وتدافع عن حقوق الإنسان) حين لبس رجالها جلود النمور والذئاب، بل لقد صنعوا ما لم تصنع مثله الذئاب ولا النمور. الذئاب تأكل لتعيش وتهجم على قطيع الغنم فتفتك ببضعة رؤوس منه، أمّا هؤلاء فقد قتلوا بضربة واحدة أهل مدينة كاملة، أهل هيروشيما ثم أهل ناغازاكي؛ كانت ثمرة علمهم وتفكيرهم ورقيّهم وحضارتهم هذه الجريمة التي هانت معها الجرائم.
فمَن كان معجَباً بهم فليقرن تاريخهم هذا القريب بتاريخنا نحن المسلمين. خذوا مثلاً واحداً: لمّا عدا الصليبيون على القدس ذبحوا أهلها وقتّلوهم تقتيلاً، حتّى قضوا على سبعين ألفاً منهم ظلماً وعدواناً ونذالة ووحشية، فلما استردّها صلاح الدين أخرجهم سالمين آمنين:
وحلّلتمو قتلَ الأُسارى وطالما ... غَدَوْنا على الأسرى نَمُنُّ ونَصْفَحُ
فحسبُكمو هذا التفاوُتُ بيننا ... فكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضَحُ
* * *
وأنا لا أعجب أن يكون في الناس كرام ولئام وأن يكون فيهم عادلون وظالمون، هذه سنّة الله في البشر. ولكني أعجب أن يأتي منّا من ينسى بياض تاريخنا ويتوهّم النورَ في سواد تاريخ غيرنا، أن نُهمِل فضائلنا ثم نمجّد أعمالهم التي يكاد أكثرها يُعَدّ