وأعانني الله أولاً بإخلاصي، وبأنني لا أبتغي من ذلك جرّ منفعة لنفسي ولا درء مضرّة عنها، والله يعلم ذلك مني. بل إن منفعتي الدنيوية كانت في إرضاء الناس والاستكثار من الأصدقاء وإسكات الألسنة المعترضة، لو أنني أردت مصلحة نفسي. وأعانني الله فجعل مَن في الوزارة يثقون بي ويستمعون مني، لا لأنني قاضٍ، فالقُضاة كثيرون والمنازل بين الموظفين مراعاة ومعتبَرة، لكن لصلات شخصية كالتي كانت بين أبي وخالي وبين الرجلين القائمَين على وزارة العدل، وهما سامي العظم ورشدي الحكيم، ومساعده الموظف القديم الرجل الطيب زيوار الجابي، رحم الله الثلاثة. ولأن كل من كان ينشد الحقّ ويبتغي الإصلاح في الوزارة وخارج الوزارة وعلم بما صنعت كان مؤيّداً لي ومعاوناً على ما أريد.
ما مرّ وقت طويل حتّى تبدّل موظفو الديوان جميعاً، ذهب من كان منهم على أيام عزيز أفندي رحمة الله عليه وحلّ محلهم غيرهم، منهم من سَهُل عليّ أمر نقله ومنهم من تبيّن أن له جذوراً ممتدّة في الأرض يصعب اقتلاعها. والغريب أن أطول هذه الجذور وأكثرها امتداداً وتشعّباً كان لرئيس الديوان الذي كان إليه أمر المحكمة كله، ولأصغر عامل فيها وهو الآذن (الفرّاش) الذي كان على باب القاضي الممتاز!
كان هذا الفراش (واسمه أبو محجوب) يرفع ويضع ويقدّم ويؤخّر، ويستطيع أن يصنع في المحكمة ما لا يقدر على صنعه مساعد من المساعدين، حتّى إنه كان يستعمل غرفة القاضي