لذلك كان أفضل ما كتبت -في رأيي- ما كنت أنطلق به على سجيّتي وأساير طبعي، فأكتب بلا تكلّف ويقرأ الناسُ ذلك بلا تعب، وأسوأ ما كتبتُه ما كنت أتصنّع فيه وأحتشد له وأريد أن آتي بما أحسبه رائعاً، فأتعب أنا بكتابته ويتعب القارئ بقراءته.
ويبدو النوعان فيما نشرت إلى الآن (١). والذي نشرتُ إلى الآن وطُبع وهو في أيدي الناس يزيد على أربعة عشر ألف صفحة، منها ما أودعتُه كتبي التي أصدرتها ومنها ما بقي في مجلاّت عرفتها وحفظتها، ومنها ما نسيت أين نُشر ولم أحتفظ بالجريدة ولا
(١) لو سُئلت لقلت إن قديم علي الطنطاوي يكاد يكون كله من النوع الثاني الذي وصفه آنفاً، هذا الذي يَتعب القارئ بقراءته ويقف فيه عند هذه الكلمة أو تلك يبحث عن معناها في المعاجم، أما جديده فمن النوع الذي قال إنه ينطلق فيه على سجيته بلا تكلف. لقد أحسستُ بذلك دائماً وأنا أقرأ كتابات جدي رحمه الله، ثم أحسست به أكثر لمّا جئت أجمع كتاباته التي لم يُخرجها في حياته في كتب؛ فكلما أوغلَت المقالةُ في الزمن وجدتُني أكثرَ حاجةً إلى التعليق عليها بما يُذهب غرابة مفرداتها ويُفهم القارئ غوامض ألفاظها، فتخرج المقالة الواحدة بالعدد من الحواشي. أما الجديد فلا أكاد أجد بي حاجة لشيء من هذا إذا اشتغلت به. وليس يسع المرءَ أن يحدد خطاً فاصلاً في السنين انتقل الأسلوب عنده من هذا المنهج إلى ذاك، فكل انتقال في الدنيا يتم متدرّجاً، لكن يمكنني أن أحدد الخمسينيات تحديداً عاماً لهذا التحول؛ فما كان من كتابات علي الطنطاوي في الأربعينيات والثلاثينيات فأكثره من النوع الصعب وفيه تصنّع أو تكلّف (كما قال هو عن نفسه هنا)، ثم لا تكاد تجد من هذا كله شيئاً فيما كتبه منذ أواخر الخمسينيات إلى آخر عمره رحمه الله (مجاهد).